بيت فنسنت فان غوخ الذي صنع معجزته في عشر سنوات من الرسم

لندن- شيء من فنسنت، شبحه على الأقل كان يرافقني حين ذهبت إليه مشيا. ثلاثة كيلومترات تفصل بين البيت الذي كنت أقيم فيه وبين منطقة المتاحف في أمستردام. كان عليّ أن أمشيها وأنا أفكر فيه. في فنسنت فان غوخ (1890-1853) وفي شتائه الذي لم يكن مزحة. سبق لي أن رأيت الكثير من لوحاته في باريس، غير أن تذكر تلك اللوحات شيء والنظر إليها مباشرة شيء آخر.
جنون العبقرية
فنّ فان غوخ لا يقيم في المعاني، وهي عظيمة، التي يقترحها بل في الرسوم التي تنطوي على قوة روحية عصيّة على الوصف. هنالك شيء ما في عالم ذلك الرسام الهولندي يظل غامضا، شيء له علاقة بمغزى الوجود البشري، بالمصير الذي يبقى ملتبسا. لذلك يغمض الكثيرون عيونهم حين يتأملون رسوم فنسنت كما لو أنهم ينصتون إلى موسيقى متألمة.
معهم حق. لا يمكن النظر إلى فنّ فنسنت دائما بعيون مفتوحة. هناك ما يجب أن لا نسأل عنه، أن نتفادى المرور به. أن ننظر إليه باعتباره جزءا من الـ”هكذا هو المصير”.
فنّه يشبهه. أقصد فنسنت. مثله تماما وهو الذي لا يمكن أن يُعرف باعتباره مريضا أو مجنونا بالرغم من أنه كان أكثر من مريض. إن الاكتفاء بمرضه يعني بالضرورة إغفالا لعبقريته، إنكارا لقيمة ما فعله من أجل أن يكون الانتقال إلى عصر الحداثة ممكنا.
من المؤكد أن فنسنت كان يعاني من الانفصام النفسي. لمَ لا؟
كلنا بطريقة أو بأخرى منفصمون ومنفصلون. هل كان مجنونا؟ الدكتور هاشيت، الذي رسمه، لم يقل بذلك، وهو الذي عاصره وعايشه وعالجه وشهد موته. غرابة أطواره كانت تدل على اختلافه ونفوره وتمرده. كان شخصا مختلفا.
ما لا نعرفه عن الأمل
في سنوات شبابه المبكرة تعرّف على شقاء عمّال المناجم، آكلي البطاطا، كما رسمهم، فهجر السلك الكهنوتي، إذ كان أبوه قسّا، لأنه أدرك أنه لن يكون جزءا من مجموعة، بغض النظر عن قيمة ما تقوم به تلك المجموعة.
|
ولأنه لا يملك وقتا للنسيان، فقد تراكمت التعاسات في حياته لتملأ خزانة عاطفته ووعيه. كما لو أنه كان الرجل الأخير. الرجل الذي لا يملك أملا. لذلك اخترع نوعا من الوصف لا علاقة له بشروط الوصف الموضوعية.
كان فنسنت يصف ليقول ذاته وينسفها في الوقت ذاته. يحوّل تلك الذات من خلال الرسم إلى صورة عاصفة ليلية، حقل شاسع، زهرة عبّاد الشمس، غرفة في آرل، منزل أصفر. ما نراه في لوحاته لا يكترث بما يمكن أن يشكّل قاسما مشتركا بينه وبين الواقع. يمضي فنسنت بالطبيعة إلى عينيه، وبعدها يتسلّل بها إلى روحه. حينها لن يكون الموضوع سوى ذريعة. في رسائله كان فنسنت بارعا في وصف تحوّلات الرسم تبعا لتحوّلاته الروحية.
مشيا وصلت إلى فنسنت. كان في انتظاري ساعتان من الوقوف في طابور طويل لكي أتمكّن من الوصول إلى مكتب قطع التذاكر لكي أدخل. على الجدار كانت هناك صور لرسوم فنسنت مكبّرة. فكرة تمهيدية يتسلّى المرء من خلالها في التفكير بما سيلاقيه في الداخل.
“مصباح ديوجين” قلت لنفسي وأنا أرى فنسنت وحيدا في عصره حاملا فكرة عن الرسم هي الضدّ تماما لكل الأفكار السائدة، بما فيها تلك التي أنتجتها المدرسة الانطباعية، وهي المدرسة التي كان من المفترض أن ينظر إليها فنسنت بقدر لافت من الاحترام، كونها حرّرت الرسم من قوانينه الأكاديمية.
فنسنت كان وحيدا. وكما أرى فإن كل حديث عن انتمائه إلى مدرسة أو تيار فنّي هو محض افتراء نقدي. كان صانع الصور الصينية كما لقّبه نقاد عصره ساخرين قد اكتفى بقلب قواعد الرسم. لأول مرة يمتزج التعبير بالتقنية. تكون التقنية أساس التغبير. مقصودة لذاتها لأنها تتألّم أيضا.
|
رسام لعشر سنوات فقط
كشفت رسوم فنسنت عن حساسية جديدة، مصدرها اشتباك بين مصيرين، كل واحد منهما لا يملك من الرجاء سوى الضربة الأخيرة. مثل شعور مفاجئ بألم عظيم. مثل استغاثة غريق. متأثرا بتقنية الحفر الياباني على الخشب نفّذ فنسنت رسومه بالزيت. ولكنها مهمة شاقة، وجد فنسنت فيها ومن خلالها ضالته. وهنا بالضبط يكمن السر الذي يجيب على سؤال من نوع “كيف قيض لعشر سنوات (1890-1880) وهي الفترة التي قضاها فنسنت رساما أن تصنع فنانا عظيما؟ هل كانت تلك السنوات كافية لكي يتدرّب المرء على أن يرى ومن ثم يحول تلك المرئيات إلى رؤى خاصة به؟”. ربما تجرّأ الكثيرون في عصره على القول بأن فنسنت كان رساما ضعيفا. فهل كان فنسنت يتقصّد الظهور بذلك المظهر أم أنه كان رساما ضعيفا فعلا؟
أسوا الرسامين في إمكانه أن يرسم مدرسيا أفضل من فنسنت. ذلك حكم متسرّع. من المؤكد أن بول غوغان وهو صديقه الذي ذهب إلى تاهيتي كان أفضل حالا من فنسنت على هذا المستوى. ولكن قد يكون هذا القياس مجرّد وهم. كان فنسنت عدوّا للرسم، مثلما ورثه وعرفه الآخرون. لقد سعى إلى أن يبرّئ نفسه من ذلك الإرث.
مرثية عائلية
ما الذي كان يحاول أن يرسمه؟ عناده، تمزّقه، حيرته، خيبته، ضجره، يأسه من عالم صار يبتعد تدريجيا. كل هذا بدا واضحا في الـ37 صورة شخصية التي أنجزها خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته والتي عاشها في آرل. السنتان الأخيرتان أنتجتا فنسنت المبجّل. الرجل الذي يستقبلك في متحفه بأمستردام بصورته الشخصية التي تنتمي إلى عالم المطلق. هذا رجل قرّر أن يقيم وراء غيوم شخصية.
في حضرته لن يتلاشى الوهم. بل يتخذ ذلك الوهم صورا جديدة، أقلها أن تكون فنسنت في مواجهة الطبيعة. ينظر الرسام إليك. وحيدا يتحكّم بحركتك بين لوحاته. لم تكن تخطيطاته ذات قيمة فنية. الجميلات اللواتي كن يتنقّلن بين لوحات فنسنت قد لا يعرفن أنه كان سيء الحظ مع النساء. لم تكن هناك نساء حقيقيات في حياته. الموديل، الخادمة صاحبة الطفل، المومس التي أشيع أنه قطع أذنه من أجلها. ما من امرأة أخرى.
|
أستعير قدميه وأمشي متنقلا ما بين رسومه وبين الشهقات الأنثوية التي كنت أسمعها بين حين وآخر. “سيبقى الحزن طويلا” كتب فنسنت إلى تيو، أخيه في رسالته الأخيرة. هذا المتحف هو مرثية عائلية. معظم مقتنياته جاءت من ابن وحفيد تيو. لم يقل فنسنت إنها وصيتي. لم يكن مثل الفرنسي سيزان يحلم في الدخول إلى متحف اللوفر. رجل مثالي يرسم بيد غير مكترثة.
في لوحته “غرفة في آرل” يعترف فنسنت بكل ما طرأ على حياته من تحوّلات. يحرّر الرسام يده من الرّسم. ليست هناك ضربات قوية. ولكن الطريق إلى الروح غالبا ما لا تحتاج إلى العضلات. لقد حوّل فنسنت الرسم إلى دين شخصي، لذلك صار يجرؤ على تحويل العالم، من خلال الرسم إلى مزرعة شخصية، كائناتها هي جزء من حكايته التي يمكن أن تروى بطرق مختلفة.
لقد رأيت أشجارا رسمت بالأبيض في ثلاث لوحات كبيرة، هي ما أتوقّع أن أراه في الفردوس. في تلك اللوحات لم يكن فنسنت شاهدا محايدا. لقد رأى الرجل كل شيء. هي ذي الأشجار التي تمهّد لقدومه. كنت وأنا أنظر إلى تلك اللوحات أتوقع أن أرى فنسنت قادما وهو يسخر منّا.
“حياتي في الرسم هي اللامعنى الذي ينتظركم” ما من شيء يذكّر بالطبيعة ولكن الطبيعة كلها كانت قائمة في تلك اللوحات. كان فنسنت في تلك اللوحات الثلاث رسّاما قويّا، بالمعنى الذي يؤجل قلقه الشخصي.هل كان فنسنت يكذب من أجل أن يخلص لقدره الشخصي؟ كان فنسنت طفلا إلاهيا. حين خرجت من متحفه متلفتا، انتبهت إلى أن الخارجين معي كانوا يتلفّتون أيضا. كما لو أننا لا نصدق أننا سنغادر، بعد أن ترك كل واحد منا شيئا من روحه محلّقا في فضاء ذلك المعبد.