مرض الخوف من الاستثمار!

الجمعة 2017/08/18

هناك ظاهرة خطيرة في العالم العربي تمثل إحدى العقبات الكبيرة أمام التطور الاقتصادي، وهي شيوع مرض الخوف من الاستثمارات الأجنبية. وهي انعكاس بدائي للتوجس من الآخر والدفاع عن الهوية بمقاومة كل ما هو غريب.

هذه الظاهرة المسكوت عنها أوسع انتشارا وأخطر مما نعتقد، حيث تعج صفحات التواصل الأجنبي وحتى الصحف المحلية في الدول العربية بالأصوات التي تهاجم الاستثمارات الأجنبية في بلدانها وتذهب في الاتهامات إلى وجود مؤامرات خلف تلك الاستثمارات لتدمير تلك البلدان.

على سبيل المثال هناك الكتاب بل والكثير ممن يدعون أنهم خبراء اقتصاديون، يحذرون من شراء المستثمرين الأجانب بل وحتى الخليجيين للمؤسسات الاقتصادية المصرية ويحذرون من المشاريع الجديدة في الموانئ على أنها غزو أجنبي لسرقة ثروات البلاد.

من المؤكد أن هناك الكثير من الفساد والمحاباة للشركات المحلية والأجنبية في الكثير من البلدان العربية، لكن جهود الحريصين على ثروات بلدانهم ينبغي ألا تتجه إلى التحذير من الاستثمارات الأجنبية.

بل ينبغي أن تتجه تلك الأصوات إلى مطاردة الفساد المستشري وتعزيز الشفافية في منح العقود والامتيازات وحقوق استغلال الثروات وشروط بيع المؤسسات الحكومية، وليس إلى غلق أبواب الاستثمار وخنق فرص تحريك النشاط الاقتصادي.

لا توجد دولة متقدمة في العالم اليوم لا ترحب بجميع أنواع الاستثمارات وهي جميعا ترحب بكل دولار أو دينار أو درهم يدخل إلى البلاد. بل إننا لا يمكن أن نجد في قاموس تلك البلدان أي تمييز بين دولار وآخر على أساس القومية أو العرق أو الدين، مثلما تطارد التمييز العنصري بين البشر.

جميع تلك الدول تبذل جهودا جبارة لاستقطاب آخر قطرة ممكنة من الاستثمار الأجنبي.

وحين تكتشف أن بعض الاستثمارات تؤدي إلى آثار سلبية على هياكل الاقتصاد والمجتمع فإنها لا تغلق الأبواب بوجه تدفق الأموال، بل تلجأ إلى تحديث وتعديل القوانين والمعايير والضوابط، لكي تضمن تحقيق أفضل استفادة ومساهمة لتلك الاستثمارات.

على سبيل المثال فإن تدفق الاستثمارات لشراء العقارات في بعض المناطق البريطانية، أدى إلى ارتفاع جنوني في الأسعار وانعكس ذلك في تغييرات ديموغرافية وتشوهات في تشكيلة السكان في تلك المناطق، بعد أن أصبحت أسعار العقارات فيها خارج متناول البريطانيين من متوسطي الدخل.

لكن الحكومة لم تغلق الباب بوجه تدفق تلك الأموال إلى شرايين البلاد، بل بدأت تدرس شروط البيع والرسوم والضرائب المتعلقة بها لمعالجة الخلل، إضافة إلى فرض شروط على خطط المطورين العقاريين.

هناك اليوم قطاعات اقتصادية بريطانية مملوكة بشكل شبه كامل من قبل مستثمرين أجانب وهي تمتد من صناعة السيارات إلى التعدين وصولا إلى الأغلبية الساحقة من أندية كرة القدم الكبيرة، لكن جميع تلك الأنشطة المزدهرة لا تزال في بريطانيا وتشهد ازدهارا كبيرا.

وفي الإمارات وسنغافورة والصين وغيرها من البلدان هناك تريليونات من الدولارات الأجنبية المستثمرة، لكن جميع تلك الأنشطة ستبقى في تلك البلدان في نهاية الأمر. أما كونها مملوكة لأجانب أفضل كثيرا من كونها مملوكة لسكان لأنه يعني ضخ تدفقات كبيرة من رؤوس الأموال إلى البلاد.

لو لم تتدفق الاستثمارات الأجنبية إلى دبي أو سنغافورة أو هونغ كونغ مثلا، فإنها ما كانت لتبلغ أكثر من واحد في المئة مما هي عليه اليوم.

في التفكير الساذج يعتقد البعض أن دخول استثمار بقيمة مليون دولار مثلا وتحقيقه أرباحا كبيرة تفوق ذلك الاستثمار وإخراجها من البلد، يمثل استنزافا لثروات ذلك البلد! بينما في الواقع فإن الاستثمار الذي يحقق أرباحا كبيرة أفضل من الاستثمار الذي يدخل الأموال ويخسرها داخل البلد.

الدول المتطورة تفخر بالاستثمار الذي يحقق أقصى عوائد ممكنة حتى لو أخرج سنـويا آلاف أضعـاف استثماره المبـدئي، لأنه يخلق أموالا داخل البلد تعادل أضعاف ما يتمكن من إخراجه من البلد من خلال فرص العمل المباشرة وغير المباشرة التي يخلقها والضرائب التي يدفعها والسلع والخدمات التي يضخها في شرايين اقتصاد البلد.

لنفترض أن شركة أجنبية ضخت مليون دولار فقط في مصنع أو منشأة سياحية في قرية تعاني من الفقر وانعدام الحياة الاقتصادية. وتمكنت من تحقيق نجاح خارق. فما الذي يعنيه ذلك؟ سوف يعني بالتأكيد خلق فرص عمل وتحسن الخدمات وانتعاش جميع مظاهر الحياة.

وإذا تمكنت تلك الشركة من تحقيق مليار دولار سنويا أو حتى يوميا وأخرجتها من البلاد، فإن ذلك يعني فقط حدوث انتعاش اقتصادي هائل في تلك القرية تتسع تأثيراته إلى المناطق المحيطة وإلى عموم اقتصاد البلد وموازنة الدولة.

قبل أسابيع قرأت منشورا في موقع فيسبوك يحذر من مؤامرة كبرى ويؤكد أن اليهود العراقيين يشترون عقارات في بعض مدن العراق. فعلقت بأن ذلك يمثل “بشرى سارة لأنه يعني أنهـم يراهنون بأموالهم على أن العراق سيخرج من محنته ويتجه إلى الانتعاش”.

لا يمكن لأي بلد أن ينتعش اقتصاديا دون قواعد راسخة لعدم التمييز بين المواطنين وقواعد عادلة للتعامل مع الأجانب، لكن ما لا يقل أهمية عن ذلك هو عدم التمييز “العنصري” بين دينار وآخر إلا في شرعية مصادر التمويل.

جميع الدول النامية لديها فرص هائلة لتحقيق ثورة اقتصادية، شرط أن تضع قوانين وتشريعات مالية وضريبية واضحة تكشف للمستثمرين ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.

هناك إرث من الشك والحساسيات التاريخية بين اليابان والصين وبين ألمانيا وفرنسا، لا تقل عن مثيلاتها في الشرق الأوسط، لكن تلك البلدان وضعت قواعد شفافة وواضحة للاستثمار دون تمييز وفتحت الأبواب للانتعاش الاقتصادي.

جميع قصص النجاح الخارقة مثل الإمارات وسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان تستند إلى هذه المعادلة، بل إن هناك دولا لم تكن على الخارطة الاقتصادية مثل منغوليا ورواندا وغانا التي تحقق اليوم معـدلات نمو في خـانة العشرات وتتجه بسرعة كبيرة لتحقيق معجزات اقتصادية.

المغرب من النماذج العـربية الفريدة أيضا وهو يتجه لانتعاش هائل بعد أن وضع تشريعات شفافة تطمئن المستثمرين، وقد أصبح قاعدة كبيرة لصناعة السيارات، التي أصبحت تتربع على عرش صادرات البلاد.

بل إن صناعة الطيران في المغرب تتجه أيضا لتحقيق قفزة هائلة بعد أن أقامت عشرات شركات الطيران العالمية مئات المصانع لمكونات الطائرات، وبينها إيرباص الأوروبية وبوينغ الأميركية وبدأت شركة أل.أتش أفيسيون الفرنسية بتصنيع أول طائرة في المغرب بالكامل.

لا يمكن التقليل من خطورة مرض الخوف من الاستثمار في البلدان العربية لأنها تشكل مقاومة عميقة تعرقل فرص التطور الاقتصادي.

كاتب عراقي

11