خلق وخلق وباع وذِراع
كتب وليام شكسبير "أيها الحب الأعمى الأحمق، ماذا فعلت بعيني؟ فهما تبصران لكنهما لا تعيان ما تبصران"، ويقصد بذلك أن المحب لا يرى عيوب محبوبه الظاهرة ويتيّم ويهيم به، إلى درجة تجعله يتغاضى عن الكثير من الأشياء ولا يحسب لها حساب، لأن رابطة الحب بينه وبين محبوبه أقوى من كل الحسابات.
ووصفت الكاتبة البريطانية جانيت وينترسون الوقوع في الحب بوصف شاعري رائع “أنت لا تقع في الحب كوقوعك في حفرة، بل إنه مثل الوقوع من الفضاء، إنه مثل القفز من كوكب تعيش فيه إلى كوكب يعيش عليه شخص آخر، وعندما تصل إلى هناك سيبدو لك كل شيء مختلف، الزهور والحيوانات والملابس التي يرتديها الناس، لكن بعد قفزتك الفضائية تلك سيتغير كل شيء، فقد وقعت في مدار كوكب آخر واندمج الكوكبان معا فيما يسمى المنزل”.
أعجبتني هذه الأقوال التي لم تعد تسعها إلا الكتب ومن النادر أن نجد معادلا لها قصصا واقعية في مجتمعاتنا العصرية، بعد أن أصبح القلب لا ينبض باسم الحب، بل باسم المصالح والمآرب الشخصية، وخاصة الماديات التي طغت على حياة الناس وباتت تتحكم في مشاعرهم، وقد تذلهم وتحولهم إلى سلعة سهلة البيع والشراء، وبأبخس الأثمان أحيانا.
الحب أصبح شبيها ببعض الاختراعات القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، ولم تعد موجودة سوى في البعض من المتاحف التي يقصدها الناس للفرجة ولتذكر الأيام الخوالي، إلى درجة أن البعض يتعجبون عندما يسمعون بقصص حب حقيقية، فيسخرون من المحبين ويستهزؤون من مشاعرهم وينعتوهم بالمراهقين أو بالحمقى أو بالمغفلين.. ويكيلون لهم أصنافا من التعابير والأوصاف الذميمة.
يأتي الحب بحسب هرم "الاحتياجات الإنسانية" لعالم النفس الشهير إبراهام ماسلو في المرتبة الثالثة بعد الحاجات الفيزيولوجية، مثل الأكل والشرب والهواء والأمان..، فهو من وجهة نظر ماسلو يشعر البشر بالانتماء وبوجود هدف في الحياة يعيشون لأجله.
ولكن معظم الشباب اليوم لا يهتمون لأمر الحب ولا يخضعون للقلب عند الزواج، بل يجلسون القرفصاء خنوعا لبريق المال، رغم أن الحب مهم جدا بالنسبة إلى أيّ شخص، لأنه يلبي احتياجاته العاطفية ويحقق توازنه النفسي ويشعره براحة البال.
والشخص الذي يحب بصدق، يمتلئ وجدانه بالحب ويكون قادرا على محبة الآخرين ومنحهم عطفه وحنانه، لأن لديه خزين من المشاعر والأحاسيس الفياضة التي مهما أعطى منها لا يمكن أن تنضب، أما الشخص الذي يفضّل المصلحة عن الحب، فإنه بفقدانه الحب سيفقد قيما مهمة في الحياة، مثل العطاء والإخلاص والوفاء والتضحية، وتقدير الذات والثقة بالنفس واحترام الآخرين ومحبتهم، ولا يصل في حياته إلى معنى السعادة الحقيقي.
ربما نسق الحياة السريع قد غيّر الكثير من الأشياء والمفاهيم في حياتنا، ولكن معدن البشر أيضا أصابه الصدأ، وبات من الصعب العثور على أشخاص محبين وغير أنانيين في عالمنا المليء بجينات الأنانية.
وقد حزّ في نفسي ما ذكرته لي إحدى زميلات الدراسة التي كانت على علاقة حب من طرف واحد مع رجل لم يكن همه غير راتبها الشهري والحوالة المالية التي ترسلها له نهاية كل شهر، وبمجرد فقدانها لوظيفتها بعد أن أغلقت المؤسسة التي كانت تشتغل بها، تنكر لها، وأخلف كل وعوده بالزواج منها، بل والأمرّ من ذلك أنه قال لها بالحرف الواحد إنها لم تعد تنفعه لأنها عاطلة عن العمل، ولكن بعد أن سرق منها أجمل سنوات عمرها وعرق جبينها.
لا ينقص زميلتي "الخِلق ولا الخُلق ولها باع وذراع” كما قالت، ولكن ليس لها مال، والمرأة لم تعد تتزوج في أغلب مجتمعاتنا العربية، إلا إذا كان لديها أموال، أو تباع وتشترى بالأموال، أما الأخلاق فلا سبيل للسؤال عنها، لأن الرصيد البنكي يغطي على كل العيوب.
الزواج أصبح اليوم مشابها لعمليات المقايضة، فإما أن تبيع المرأة نفسها بمقابل أو أن تباع كـ"الشاة" كما هو الشأن في زواج "المسيار" و"المتعة" و"المسفار"، وتتعدّد التسميات ولكن الضحايا في أغلب الحالات فتيات صغيرات السن وفقيرات، ومثل هذه الزيجات أقرب إلى الاغتصاب وليس الزواج، وفي حالات أخرى يتخلى الشباب عن فكرة الزواج أصلا، بسبب الوجاهات الاجتماعية وغلاء المهور.
من المؤسف أن الإنسان في عصرنا الحالي أصبح له سعر مادي ولم يعد يقيم لذاته وصفاته وسلوكياته ومؤهلاته.
كاتبة تونسية مقيمة في لندن