النجف في عين العاصفة

الاثنين 2017/07/03

إنه نوع مما يمكن أن نسميه إرهابا حكوميا أن تعلن الجهات المختصة في الحكومة العراقية أن ما جرى في مدينة النجف، العاصمة التقليدية للشيعة في العالم، كان بفعل مندسين ووراءه جهات مغرضة، فما يحصل في النجف، منذ الاحتلال الأميركي إلى الآن، هو خارج حدود التصور والمعقول، لمدينة شديدة الحساسية لجهة انتمائها القومي.

إن الشرخ كبير وقديم بين عامة النجفيين وبين العمائم القادمة من دول شتى في العالم، وخصوصا من إيران وأفغانستان وباكستان، ولولا هذا الشرخ وحساسية المدينة وانحيازها لعروبتها لترك هؤلاء الوافدون آثارهم اللغوية وتقاليدهم الاجتماعية في بلدانهم على المدينة وأبنائها، وتجد تفاصيل ذلك واضحة في كتابات كل من أرخ للنجف، وخاصة الأديب النجفي الراحل جعفر الخليلي، إذا راجعت أجزاء كتابه المهم “هكذا عرفتهم”.

لكن القول إن سبب تظاهرات النجفيين هو انقطاع التيار الكهربائي عن الأحياء الجديدة للمدينة واستمرارها في المدينة القديمة ومؤسسات الحوزة الدينية الشيعية فقط، وإن جاء على لسان المتظاهرين أنفسهم، هو تبسيط للواقع المر، الذي تعيشه المدينة، وقفز على الحقائق، وأن انفجار أبناء المدينة، في الحقيقة، جاء نتيجة تراكمات عديدة وردا على فساد الحكومات التي جاءت بعد الاحتلال زاعمة أنها تمثلهم، فإذا بالميليشيات الإيرانية تسيطر على مقدرات المدينة وأبنائها، والمراكز الاستخبارية الإيرانية تنتشر في أرجائها وتعلق صور الخميني وخامنئي في شوارعها، وإذا بالمخدرات التي تنشرها إيران في العراق، تصل إلى نساء المدينة وأطفالها، والخدمات بأنواعها تفتقدها المدينة وتنتشر تلول النفايات محيطة بمرقد الإمام علي بن أبي طالب، والعمائم الأجنبية التي لا ينظر أبناء المدينة إليها بارتياح تستحوذ على كل شيء وتقدم لها شتى التسهيلات على حساب ابن المدينة.

قبل أن يختار النجفيون يوم 30 يونيو موعدا لانفجار تظاهراتهم الغاضبة، تزامنا مع الذكرى السابعة والتسعين للثورة العراقية الكبرى سنة 1920، بأيام، اتصل بي عالم دين رفيع بدرجة آية الله العظمى فطلبت منه أن أجري معه حوارا لـ”العرب”، فاعتذر بعدم استطاعته لأن مراكز الاستخبارات الإيرانية تنتشر في المدينة وتحيط أربعة منها ببيته، فضلا عن بطش الميليشيات المرتبطة بإيران بكل صوت ينتقد إيران وممارساتها في العراق، موضحا لي ما تعانيه النجف من سوء الخدمات ومن التضييق على علماء الدين العرب.

إن إعلان قاسم الأعرجي وزير الداخلية الحالي عن تشكيل لجنة وزارية رفيعة للتحقيق في مقتل الشاب المتظاهر برصاص القوات الأمنية، يشبه علاج مرض سرطان مستفحل بحبة باراسيتول، فمشكلة المدينة ليست سقوط هذا الشاب قتيلا برصاص القوات الأمنية، وإنما المعضلة الكبرى استفحال الفساد وفقدان الخدمات وسيطرة إيران على هذه المدينة العربية وشيوع ظواهر بعيدة عن أخلاقيات هذه المدينة، التي يعدها المسلمون مدينة مقدسة، أما استمرار التيار الكهربائي في المدينة القديمة فقد جاء بجهود ناشطين مدنيين سعوا لإدخال المدينة تحت رعاية منظمة اليونسكو بصفتها من التراث العالمي، ونجحوا في إقناع المسؤولين بإخراج المولدات الكهربائية إلى خارج المدينة لكي لا تؤثر على أبنيتها، فأصبح تزويد المدينة بتيار مستمر أمرا لا مفر منه.

وكان من نتيجة جهود أولئك الناشطين إطلاق اليونسكو، النسخة العربية من مجلد عن مدينة النجف بعنوان “النجف: تاريخ وتطور المدينة المقدسة”. وسيتم نشر الطبعة الإنكليزية بالاشتراك بين مؤسسة إيثاكا للصحافة في المملكة المتحدة وبين اليونسكو في وقت لاحق.

ألف الكتاب كُل من سابرينا ميرفن، وروبرت غليف، وجيرالدين شيتلارد وعدد من العلماء العراقيين والدوليين الذين عملوا لتوفير سياق علمي يتلاءم وأهمية النجف، وتوفير مادة علمية للدارسين من المختصين بعلم الآثار وعلم الإنسان والدراسات التاريخية المختلفة. ولما كانت المنح والبعثات الدراسية الغربية التي ركزت على النجف ليست وفيرة، فقد أطلقت هذه المبادرة كمحاولة لتصحيح هذا الخلل على الرغم من أن جل النتاج العلمي حول مدينة النجف قد أنتج من قبل الشيعة الذين أسسوا أكبر مكتبة خاصة به.

وبعد، فإن إغماض العين عن معاناة العراقيين عامة والنجفيين خاصة، واتهام مندسين بالتحريض على التظاهر والاحتجاج، في حين يؤكد نائب محافظ النجف طلال بلال عكس ذلك تماما، سيزيد المشكلة اشتعالا وسيبقي النجف في عين العاصفة.

كاتب عراقي

9