الأصولية المسيحية تصيب وفاق الكنائس المصرية بالتصدع

الخلاف بين المذاهب والفرق الدينية ليس حكرا على الفضاء الإسلامي، فعلى الرغم من أجواء التقارب التي سادت مؤخرا بين المسلمين والمسيحيين، فضلا عن التقارب السابق بين الطوائف المسيحية المصرية، إلا أن الخلاف الذي اندلع أخيرا بين الكنائس المصرية طرح أسئلة متصلة بالأصولية المسيحية ووقوفها حجر عثرة أمام مشاريع الوحدة المسيحية.
الخميس 2017/03/23
إرادة الشعب المسيحي ليست التشرذم بل التقارب

القاهرة - بعد مرور حوالي عشر سنوات على الأزمة التي اشتعلت بين الكنيسة الأرثوذكسية المصرية والكنيستين الإنجيلية (البروتستانتية) والكاثوليكية، إثر اتهام الأنبا بيشوي السكرتير السابق للمجمع المقدس الكنائس الأخرى في مؤتمر”تثبيت العقيدة” بالفيوم بالكفر، عادت أجواء القلق من جديد بين الكنيستين لتثير انقساما مسيحيا غير محمود العواقب.

وشن القس أنسيموس، راعي كنيسة مارجرجس بميت غمر بمحافظة الدقهلية، الحرب على الكنيسة الإنجيلية في مقطع فيديو تداولته مواقع التواصل الاجتماعي، ما تسبب في إشعال حرب تصريحات طائفية بين الأقباط الأرثوذكس والإنجيليين.

وطبقا للرؤية الأصولية المسيحية، هناك دين واحد فقط هو الصحيح وطريقة واحدة للحياة يجب الدفاع عنها ضد الأديان الأخرى أو العلمانية، وأيضا ضد أبناء الطوائف الأخرى.

وشهدت السنوات الماضية تحولات كانت كفيلة بتغيير تلك الرؤية الثابتة، منها التقارب بين الكنائس المصرية الثلاث والسعي إلى تحقيق الوحدة المسيحية وإنجاح مجلس كنائس مصر. لكن الواقع يكشف عن انقسامات عميقة تعود إلى ما يناهز القرنين، لا يمكن تجاوزها بسهولة.

وأعلن القس أنسيموس صراحة أن “الذي يذهب من المسيحيين الأرثوذكس عند البروتستانت لأي سبب، سواء من أجل ترتيل أو غيره، محروم هو وأولاده من سر التناول داخل الكنيسة".

وأضاف “مسيحنا غير مسيحهم وإيماننا غير إيمانهم، فكيف نذهب وراءهم ونبيع مسيحنا بسبب هدية أو شيء آخر”. وتابع “لا نريد أن نتحدث كثيرا لكي نشرح الفرق بيننا وبينهم، فنحن لدينا أسرار وهم ليست لديهم أسرار كنسية، ولا حِل ولا بركة لكل شخص منهم هو وأولاده”.

كمال زاخر:

ما يقوله القساوسة ارتداد عن الفكر المنفتح للبابا تواضروس الثاني

وصدر هذا التصريح المفاجئ عن أنسيموس، القس الكهنوتي الذي يشغل منصب مسؤول في الكنيسة الأرثوذكسية، بالتزامن مع احتفال الطوائف الثلاث (الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية) بأسبوع الصلاة من أجل الوحدة المسيحية، الذي من المقرر أن يحضره البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بمشاركة عدد كبير من الكهنة والأساقفة من مختلف الطوائف المسيحية.

وتفضي تصريحات أنسيموس إلى مفهوم الوحدة، إذ أنها لا تتفق مع “الروح المسكونية” التي يجب أن تسود بين العائلات الكنسية في مصر، إذ يتعامل قادة الطوائف المسيحية بمحبة واحترام في ما بينهم. ويثير توقيت تصريحات أنسيموس تساؤلات بشأن الصلاة معا من أجل الوحدة المسيحية، وما مدى جدية الكنيسة الأرثوذكسية في حواراتها مع الكنائس البروتستانتية وغيرها.

واتهم أبناء الطائفة البروتستانتية أنسيموس بالتعصب والتطرف والسير باتجاه معاكس للتوجهات الإصلاحية للبابا تواضروس ومحاولاته المستمرة استئصال التطرف من نفوس القائمين على الكهنوت.

وأوضح بعض أبناء الطائفة البروتستانتية لـ“العرب” أن مصر “لا تحتمل المزيد من الفتن، وهجوم الأب أنسيموس على الطائفة الإنجيلية والنيل من سمعتها أمر غير مقبول، سواء من الطرف الأرثوذكسي أو من الكنيسة عموما".

وأكد القس جوهر المنتمي لسنودس النيل الإنجيلي المشيخي بمصر لـ“العرب”، أن “كلام الكاهن يعبر عن التعصب ورفض الآخر، وأن هذا الفكر يمثل اتجاها شخصيا ولا يعبر عن وجهة نظر الكنيسة الأرثوذكسية”. وأوضح أن “إرادة الشعب المسيحي ليست التشرذم بل التقارب، وأن ما يطور المجتمعات هو التسامح والمحبة وليس التعصب”.

ومازال الأنبا بيشوي، مطران كفر الشيخ ودمياط والبراري وسكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية السابق يرفع راية “حماية الإيمان الأرثوذكسي” إلى اليوم، ويواصل اشتباكاته مع المختلفين، رغم أنه ممثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الحوارات اللاهوتية مع الكنائس الأخرى لتحقيق الوحدة بينها.

ولم يكن بيشوي وحده من اتخذ هذا النهج، بل أكد الأنبا بولس جورج، راعى كنيسة مار مرقس في حي مصر الجديدة بالقاهرة، المسار نفسه ودعا إلى مقاطعة الأرثوذوكسيين لغير الأرثوذوكسي.

كما يرى الأنبا رافائيل، سكرتير المجمع المقدس وأسقف كنائس وسط القاهرة، أن الأرثوذكس فقط يفهمون “الثالوث”، وهو معتقد ديني في الديانة المسيحية، (الأب والابن وروح القدس)، واتهم الكاثوليك بـ”التخريف”.

وقال القس عزيز حنا (أرثوذكسي) لـ“العرب” إن “ما ذكره الأب أنسيموس وغيره من القساوسة مسيء إلى الكنيسة الأرثوذكسية”، مشيرا إلى أنهم “أشخاص سلطويون يرجعون الجماعة القبطية إلى عصور الظلام، وهذا ما لم يسمح به الأرثوذكس المعتدلون الذين يعترفون بالكنائس الشقيقة والجماعات الكنسية، حيث أن تعاليم الأرثوذكسية بعيدة كل البعد عن تكفير الآخر".

ويجد تيار آخر من المسيحيين مبررات لما يقترفه القساوسة المتشددون من تكفير للآخر، وأوضح بعضهم لـ“العرب” أن ما صدر من أنسيموس وغيره من الآباء أمر منطقي؛ فالكنيسة تُعبر عن تخوفاتها من انتشار التبشير البروتستانتي بين أفراد شعبها. واستشعر هؤلاء القساوسة الخطر باقتراب شبابهم من الكنيسة الإنجيلية، لذلك قاموا بنشر خطابات تكفيرية للآخر.

وقال المفكر القبطي العلماني كمال زاخر لـ“العرب”، إن ما يقوله القساوسة “هوّ ارتداد عن الفكر المنفتح الذي يتبناه البابا تواضروس الثاني، وأن أسلوب الهجوم لن يرسخ إيمان طائفة على حساب أخرى".

ولفت زاخر إلى أن باقي الكنائس يمكنها أن تدّعي أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تمثل المسيحية، وهكذا يعود نموذج التكفيريين وإحياء ثقافة نفي الآخر وتعود محاكم التفتيش في حين أننا في زمن التعددية.

13