"يوم فرح وقصص أخرى" قصص تحملنا من أرض الواقع إلى أرض العجائب

الكتابة عبودية جميلة وحسب تعبير ماريوس فارغاس يوسا هي “نفخ وهم في حياة حقيقية ضمن القصص التي يرويها” الكاتب. ولملاحقة هذا الوهم اللعين اللذيذ وهذه العبودية الجميلة انتظم العديد من التجارب المخبرية في شكل ورشات أدبية بالمشهد الثقافي التونسي، ونجحت هذه التجارب شيئا فشيئا في تكوين مريدين وعشاق أدب وكتاب شباب يلاحقون حلمهم الجميل، ولعل “ورشة أصوات جديدة” التي يشرف عليها الكاتب والمترجم وليد سليمان من أنجح هذه الورشات والتجارب، حيث دخلت موسمها الثالث دون انقطاع، وقدمت إصدارها الجماعي الأول تحت عنوان “يوم فرح وقصص أخرى”.
الجمعة 2016/02/19
أي وجوه جميلة للعبودية

صدر كتاب “يوم فرح وقصص أخرى” عن منشورات وليدوف سنة 2015 وضم سبعة نصوص مختارة لمواهب وكتاب شباب يتقدون حيوية ويؤمنون بجدوى الكتابة في زمن البارود فكانت قصص “رسائل أيوب” لغادة بن صالح و“ميني كوبر” لنورا خليل و“تقاطع” لوئام روين و“صورة” لأيمن عويضة و“المايسترو والبارمان” لنبيل قديش و“يوم فرح” لنجيبة الهمامي و“هذا أنا… وذاك وطني” لإحسان ماجدي.

وقد تم اختيار قصة “يوم فرح” لنجيبة الهمامي لتكون عنوانا لكل المجموعة التي تتراوح نصوصها بين السرد الواقعي والفانتازيا، ورغم اختلاف الأسلوب من كاتب إلى آخر إلا أن كل القصص تتماهى في السرد البسيط الجميل واللغة الجدلى وتنبئ عن مواهب أدبية أصيلة تتحسس طريق العبودية -الكتابة- الجميل على مهل.

من هنا نفهم أن الإنسان تواق إلى الحرية والتحرر والفكاك من أغلال العادات والتقاليد والواقع المتكلس بطبعه، ولكن ما الذي يجعل من العبودية مطلبا أوّل وملحا في حياة أيّ إنسان؟ إنها “دودة وحيدة وخطيرة” تسمى الكتابة نكتشفها مع الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا في كتابه “رسائل إلى روائي شاب”، دودة تعشش في أحشاء هذا الإنسان وتأكل كل ما يتناوله، لذلك فتتبع دروب الإبداع الصعبة، كما يوضح يوسا، “ليس تزجية للوقت، وليس رياضة، ولا لعبة راقية تمارس في أوقات الفراغ. إنه انكباب حصري وإقصائي لما عداه. وشأن له أولوية لا يمكن أن يقدّم عليه أي شيء آخر، وعبودية مختارة بحرية، تجعل من ضحاياها (من ضحاياها المحظوظين) عبيدا”.

لذلك يؤكد وليد سليمان في مستهل تقديمه لهذه المجموعة القصصية على أن هذه “النصوص تتميز بالتنوّع والأصالة وتعطي فكرة عن التوجهات السردية لأعضاء الورشة الذين يسعى كل منهم لأن يكون له لونه السردي والأدبي المتفرد والخاص الذي يميّزه عن غيره”.

الإنسان المركز

قصص طريفة ومتنوعة تنتقل بنا من عالم العجائبية إلى السرمدية ثمّ الواقعية، وتطوحنا في أفق الخيال الواسع فنحلق بجناح الأدب إلى مناخات ومساحات وسماوات فكر بكر، وننفتح بلغة قص جميلة بسيطة على عذابات الكائن البشري وأفراحه وخياناته وشره وخيره وصراعه وكفاحه، من أجل إثباث جدارته بهذه الحياة المتناقضة. الكائن البشري هو إذن مركز الكتابة والكون مهما اختلفت التعبيرات والأساليب.

وربما نلمس كل هذا التناقض الجميل والتشويق اللذيذ في قصة “ميني كوبر” لنورا خليل حيث نلهث وراء لذة القص وخلف سيارة التاكسي وهي تتبع ناديا في سيارتها الميني كوبر حتى نتعرف على القصة فنقرأ “وقفت ناديا في إشارة المرور، وقلبها يخفق كمراهقة في موعدها الأول. نظرت في المرآة لتتأكد من سلامة ماكياجها. انتفضت عندما سمعت منبه سيارة خلفها يحثها على الانطلاق، فقد أصبحت الإشارة خضراء. إنها سيارة تاكسي. يا لسائقي سيارات الأجرة إنهم دائما على عجل.

نصوص بين السرد الواقعي والفانتازيا

استمرت في طريقها. مازالت أمامها على الأقل عشرون دقيقة قبل أن تصل الى حبيبها. استدارت يمينا لتسلك طريقا تقل فيه حركة المرور، نظرت في المرآة العاكسة ولاحظت أن وراءها سيارة تاكسي، هل هي ذاتها؟ نظرت إلى اللافتة حيث كتب رقم سيارة الأجرة. إنها تحمل عدد 01 /01 /1056. لم تبال. لقد اكتظت المدينة في السنوات الأخيرة بهذه السيارات ذات اللون الأصفر المثير للاشمئزاز. شغلت المنبه الضوئي على اليسار، واتخذت طريقا جانبيا وصفه لها حبيبها قائلا بأنه “قَصّة عرْبي”. ما لهذا التاكسي لا يزال ورائي؟ إنه العدد نفسه: 1056 تملّكها إحساس غير مريح، لكنه سرعان ما تبدّد. “الطريق ليست ملكي”.

صورة من هذا الزمان

في المجموعة نرى صورة أيمن عويضة ونكتشف حكاية إلهام ورائد والرواي وأم سالم والمجنون في سوق الجمعة وساحة عمر المختار؟ حكاية عائلة من الزمن الجميل وذكريات الكائن البشري مع عائلته الصغيرة ومحيطه وتداعيات الحرب والعنف عليه. ورغم صوت الرصاص والبارود والانفجارات يدخل بنا الكاتب عبر عالم القص الجميل إلى تفاصيل الحياة اليومية الحميمية لعائلة ليبية بسيطة ولكنها تفاصيل موحية تنبع من نهر الذاكرة وتصب في بحر الحياة الواسع فتتحول الـ”صورة” إلى صور مجازية كثيرة تتوسّد التخييل وتتوسّل بحركات وصفية وأسلوب السهل الممتنع المخادع وتنساب الحكاية جميلة على بساطتها.

حكاية المرأة المطيعة لزوجها الذي يضربها دونما سبب ويطبق عليها قوانين المجتمع الذكوري المسيطر على كل العقليات حتى النسوية منها “كانت أمي توصيني دائما أن أكون مطيعة لزوجي، حتى لو اضطر يوما لشتمي وضربي، فالرجال كما تقول كلهم عصبيون، ويطفحون بالدم لأجلنا كل يوم، وعلينا تحمّلهم. حتى صديقتي الوحيدة ماجدة التي كنت أراها كل شهر، كانت تقول إن الرجل بدون هيبة في البيت لا يكون رجلا، لكنني أتساءل الآن هل هذا الرجل أمامي هو نفس الرجل الذي كن يتحدثن عنه؟”.

تمتدّ الحكايات وتتمطط القصص من كاتب إلى آخر لتنحت لنا واقعا جديدا، وثمثالا من حرية يتشكل من مادة مخصوصة، مادة لغوية أدبية فنية تستبطن حياتنا وصورنا المرسومة في القاع عبر الإبداع، فيحس القارئ أنه أمام حياته وتفاصيله وأشيائه وذكرياته وعذاباته وأفراحه دونما أدنى إحساس بالملل. إنها لذة القص والكتابة التي تهبنا حيوات كثيرة، وتبعثنا من جديد كلما قتلنا الواقع المتكلس. إنها لذة الإبداع التي تزرع فينا سنابل المحبة وبذور التفاؤل، ولو كان ذلك عبر “يوم فرح”.

14