يوميات كاتب فلسطيني في غزة ترصد ما لا تصل إليه الكاميرات

ربما نجحت الكاميرات في نقل صور من فظائع حرب غزة، وعدوان الاحتلال الإسرائيلي الذي أودى بحياة الآلاف من الأطفال والنساء قبل الرجال الأبرياء، ومسح مناطق سكنية برمّتها، منذ السابع من أكتوبر إلى غاية اللحظة، لكن الصور والفيديوهات تبقى قاصرة عن نقل خفايا التأثيرات النفسية وكل ما لا يظهر من مشاعر، وهذا ما حاول رصده الروائي والكاتب عاطف أبوسيف.
توفيق الشابي
هل تكفي الصور التي شاهدناها على مختلف وسائل التواصل للتعبير عن كل تفاصيل الأوضاع في غزة؟ مع أهمية الكاميرا اليوم في نقل الحقيقة، فإن صورتها تبقى دائما جزئية لأنها لا تصل إلى الكثير من التفاصيل وخاصة اعتمالات النفس الداخلية، خوفها، قلقها وأسئلتها في تفاعلها مع الواقع، وهو المجال الذي للأدب فيه دور مهم.
ومن الكتب الأولى التي صدرت في هذا السياق، سياق الحرب في غزة، كتاب “وقت مستقطع للنجاة – يوميات الحرب في غزة”، وهو للكاتب والروائي الفلسطيني عاطف أبوسيف، صاحب عدة أعمال روائية وقصصية بالعربية والإنجليزية منها “ممرات هشة”، “الجنة المقفلة” وغيرها.
ثمانون يوما
الكتاب من جنس اليوميات، صدر في الأردن عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في 627 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدرت له بشكل مواز ترجمات في إحدى عشرة لغة أخرى.
وأدب اليوميات من بين الأشكال الإبداعية الصاعدة في السنوات الأخيرة، في الأدب العربي، يتميز بقدرته على الجمع بين سرد الواقع وسبر الأغوار العميقة للنفس، في حالاتها المتعددة، وهي تتفاعل مع ما حولها بشكل مباشر وحيّ، وذلك بأسلوب أدبي وفني فيه من الحميمية والبوح ما يجعل النص يصل إلى القارئ بشكل مباشر.
هذا الشكل من الكتابة ليس غريبا عن الأدب الفلسطيني وخاصة في حالة الحرب، ففي مقدمة الكتاب يشير عاطف أبوسيف إلى نشره يوميات حرب غزة سنة 2014 باللغة الإنجليزية، ونشره بالإنجليزية مفهوم لأن الجمهور المستهدف هو الجمهور الغربي الذي قليلا ما تصله الحقيقة والسردية الفلسطينية للأحداث. وعلى حد علمي هناك يوميات أخرى عن حرب غزة الحالية بعضها نشر وبعضها في طريقه إلى النشر.
هناك تجارب أخرى سابقة في هذا المجال منها ما أشار إليه الأكاديمي الفلسطيني الشهيد رفعت العرعير (1979 – 2023) في مقالة له نشرت سنة 2014 وأعيد نشرها في العدد 138 من مجلة “الدراسات الفلسطينية” (ربيع 2024/”مؤسسة الدراسات الفلسطينية”) والذي تحدث فيها عن نصوص كتبت إبّان الحروب التي وقعت في غزة، والتي صدرت لاحقا في كتاب بعنوان “غزة تردّ بالكتابة” معتبرا أن “الكتابة هي شهادة، ذاكرة تعيش بعد أيّ تجربة إنسانية، وهي التزام بالتواصل مع أنفسنا ومع العالم. لقد عشنا لسبب، عشنا لنروي قصص الفقد والنجاة والأمل”، وهو السياق الذي يأتي فيه الكتاب الأخير لعاطف أبوسيف.
لقد كان وجود الكاتب عاطف أبوسيف في غزة مع أحداث السابع من أكتوبر، بالأساس بغاية افتتاح فعاليات ثقافية وطنية باعتباره وزيرا للثقافة في السلطة الوطنية الفلسطينية إذ كان مقيما في الضفة الغربية مع عائلته في إطار مهامه وهو في الأصل من سكان قطاع غزة، ليكتب له أن يكون هناك منذ البداية مختارا البقاء شاهدا على ما سيحدث ومواجها الواقع الجديد مع عائلته الموسعة وأبناء غزة.
في هذا الكتاب، سجّل عاطف أبوسيف يوميات خمسة وثمانين يوما قضاها في غزة منذ بداية الحرب، معايشا كل الفظائع من قتل وتدمير وتهجير وإقامة تحت الخيام على إيقاع أصوات المدفعية والطائرات والمسيّرات ونقص المواد الغذائية وأدنى شروط الحياة الممكنة، وتحت وقع مشاعر الفقد والخوف وانتظار الموت في أيّ لحظة، ومشاهد الأنقاض ودفن الأشلاء والعجز عن انتشال الشهداء من تحت الأنقاض رغم كل المحاولات وبكل الوسائل المتاحة، لتكون كل لحظة هناك جرحا غائرا في النفس يصعب التئامه.
الكتاب شهادة حية عن حرب إبادة للحياة الإنسانية بكل ما فيها من مكونات، حيث لم تسلم دور العبادة من مساجد وكنائس، ولا المكتبات ولا المؤسسات التعليمية والثقافية، في تجسيد حقيقي لما قاله وزير الدفاع الاسرائيلي بأن هدف الحرب إعادة غزة خمسين سنة إلى الوراء، مكان غير ملائم للحياة وغير قادر على النهوض.
◄ اليوميات لا تخلو من مشاهد ومواقف مؤلمة عن الحياة اليومية تحت الحرب في رحلة البحث عن ضروريات الحياة
صورة غزة العاجزة نجدها في الكتاب في شخصية وسام وهي قريبة إلى الكاتب، تخرّجت من الجامعة منذ أيام بتميز، وقبل أن تتم فرحها بهذا النجاح وما يحمله من أحلام، قصف منزل عائلتها ومات الجميع ولم تبق إلا هي وقد بترت يدها وقدماها ولم يكن معها إلا الكاتب يزورها ويرعاها في المستشفى.
ولأن أدب اليوميات، في العمق، يتحرك في فضاء زماني ومكاني مفتوح لا يحده زمن أو مكان الكتابة، فإن ما يحياه الكاتب يحرك الذاكرة ويدفع إلى نوع من التداعي في الكتابة عن الذات والمكان، عن السياسة والثقافة وغيرها من القضايا الإنسانية. لقد مكنتننا هذه اليوميات، من خلال المزج بين سرد الواقع وتداعي الذاكرة من أن نعرف أكثر، عن تفاصيل الحياة في غزة قبل الحرب وقبل الحصار وخاصة في الجانب الثقافي باعتباره من اهتمامات الكاتب، عن دور السينما والملتقيات الثقافية والشعرية التي لا تختلف عن غيرها مما يقع في المدن العربية.
كما يحدثنا أبوسيف عن حياته باعتباره من عائلة مهجّرة من يافا إلى غزة، غزة حيث عاش فيها سنوات طويلة وخاصة مراحل الطفولة والشباب، ويافا التي يحن إليها ويريد أن ينسب إليها، هذا الحنين الذي مرّ إليه من خلال حكايات الجدة والعائلة، وهو تعبير عن الإحساس الدائم بحالة التهجير ما يجعل القضية الوطنية دائمة الحضور في الذهن وهو حال كل الفلسطينيين المهجرين، وهو ما جعله يعود اختيارا إلى غزة بعد أن أتمّ دراسته في بريطانيا.
وفي السياسة، هناك إشارات منها ما هو عن عرفات وأوسلو وما صنعته من آمال انتهت إلى مجرد سراب، وعن إجابة الرئيس الأميركي جو بايدن لمحمود عباس عندما طلب منه التدخل لتخفيف الضغوط عن السلطة الفلسطينية من قبل إسرائيل “أنت في حاجة إلى يسوع ليساعدك”، إجابة تقول الكثير وتغني عن كل تعليق.
كما نجد إشارات عن صدى الخلافات الداخلية الفلسطينية ولو في بعض التفاصيل مثل جدل التنسيق بين وزارتي الصحة في غزة والضفة حول عدد ضحايا الحرب من أجل دعم مصداقية الأرقام، والجدل حول ما وقع في السابع من أكتوبر وخاصة بعد أن وجد الجميع أنفسهم فجئيا في وضع الحرب الشاملة وبلا أفق معلوم.
عبر هذه اليوميات نتعرف على أناس عاديين من غزة لكل حكايته، كما نتعرف على أسماء كتاب وشعراء وفنانين مثل فاتنة الغرة الشاعرة المقيمة في بلجيكا والتي قدّر لها أن تكون في غزة وتحضر مراسم الحرب على شعبها، والشاعر والصحافي سائد السويركي والروائي هاني السالمي والتشكيلي أشرف سحويل، والشاعر سليم النفار الذي استشهد مع عائلته في قصف إسرائيلي وغيرهم.
قيمة اليوميات
لا تخلو اليوميات من مشاهد ومواقف مؤلمة عن الحياة اليومية تحت الحرب في رحلة البحث عن ضروريات الحياة كحكاية الروائي هاني السالمي الذي اضطر لحرق جزء من مكتبته لكي يوقد النار لتحضير الخبز والطعام لأطفاله، “فالإنسان حين لا يجد الطعام ليأكل لا تهمه الكلمات” كما يقول الكاتب، والدكتورة ليلى شاهين الناشطة المجتمعية التي أسّست من مالها الخاص متحف الثوب الفلسطيني الذي جمعته من اللاجئين في قطاع غزة لتستهدفه في النهاية صواريخ إسرائيل لتذهب بكل ذلك التاريخ وذلك الجهد، وهو مثال آخر على شمولية هذه الحرب التي لم تترك شيئا إلا عملت على محوه.
وعلى هذا النسق تسير اليوميات يوما بيوم مزيجا من مشاهد الواقع، وحالات النفس المتقلبة واستعادات الذاكرة والحكايات الفردية البسيطة والعميقة والمؤلمة إلى آخر نص بعنوان “بعد الخروج” وهو نص خلاصة لا يمكن أن تقرأه بحياد دون أن تتأثر، نص يحمل صعوبة اللحظة وقد ترك وراءه عائلته الموسّعة، الأب والأم والإخوة والأخوات والأصدقاء وكل الذين عرفهم والتقاهم في الطرقات والخيام ومقرات الإغاثة، والذين لا يعرف هل سيراهم مرة أخرى أم لا، لحظة لاستعادة كل المشاهد المؤلمة التي عاينها، دفعة واحدة، نص فيه كل الجدل الداخلي حول تصنيف هذا الخروج لإنسان موزع بين عائلة في رام الله وعائلة في غزة وابنه الذي عايش معه أهوال الثمانين يوما وقضية وطنية تستحق كل التضحية، توزع يجعله خروجا بالبدن وحضورا هناك بالفكر والعاطفة.
◄ أدب اليوميات من بين الأشكال الإبداعية الصاعدة في السنوات الأخيرة، في الأدب العربي، يتميز بقدرته على الجمع بين سرد الواقع وسبر الأغوار العميقة للنفس، في حالاتها المتعددة
في سياق هذه الحرب والقضية الفلسطينية عموما، تمثل هذه اليوميات قيمة حقيقية بالنظر إلى دورها في نحت السردية الفلسطينية في ظل صراع السرديات المستمر منذ بداية المشروع الصهيوني. وهذه القيمة مضاعفة بحكم أنها ليست روايات مخترعة بل هي صورة أخرى عمّا شاهدناه على المباشر على مختلف الشاشات ووسائل التواصل، وهي صورة أكثر صدقا وعمقا لأنها تعبّر بحرارة عن كل ما يعتمل في النفس والفكر في ظل واقع الحرب وهو ما لا تصل إليه الكاميرات، مع أن الأمر أعقد بكثير “ويجب أن تكون هناك لتعرف الحقيقة” كما قال الكاتب.
هذه اليوميات جديرة بالتجميع والنشر على نطاق واسع ولِمَ لا في كتب “جيب” تكون في المتناول، كل ذلك إدانة لمرتكبي هذه الممارسات اللاإنسانية، بكل المقاييس، وصوتا للضحايا من الأبرياء ودفاعا عن الحق الفلسطيني والقيم الإنسانية الحقيقية وحتى لا تتكرر مثل هذه الإبادة في فلسطين وفي أيّ مكان في العالم. وترجمة هذا العمل إلى إحدى عشرة لغة خطوة مهمة في اتجاه توسيع دائرة قرائها.
ومن المفارقات أن اليوميات كانت أيضا سلاحا، بيد آباء مجرمي اليوم، بعد الحرب العالمية الثانية وجرائم الهولوكوست. ففي تجوالي بين المكتبات هنا باحثا عن كتب في أدب اليوميات وجدت الكثير منها يعود إلى ضحايا النازية بينها يوميات “آن فرانك” التي كتب حولها الكاتب والروائي التونسي كمال الرياحي، تعليقا لافتا، في إحدى مقالاته.
يقول الرياحي “اليوميات التي لا قيمة لها في فترة زمنية معينة قد تصبح ذات قيمة كبيرة في وقت آخر، ولنستحضر يوميات آن فرانك التي تكرست بها أطروحة الهولوكوست نفسها وحوّلتها إلى أسطورة، وجعلت تلك اليوميات الطفلة اليهودية ذات الخمسة عشر عاما أيقونة الثقافة اليهودية، ولم تصمد أمامها حملة التشكيك التي تعرضت لها اليوميات وصحتها. فمسألة الصدق والكذب والحقيقة من عدمها لا يمكن أن تبطل زحف الفكرة إذا وجدت عصبية تسندها وتحميها وتروّج لها، وهذا ما حصل مع يوميات آن فرانك التي حوّلتها الدراسات التاريخية والتوظيف السياسي والتحويل والاقتباس الفني للسينما والمسرح إلى نص مقدس غير قابل للنقض”.