يوميات امرأة عاجزة عن الرؤية في مكان غريب

سينما الاحتجاز تحرك فينا كثيرا من الفضول وتدفعنا إلى طرح العديد من الأسئلة وتقديم فرضيات ليس من المؤكد أنها سوف تثبت صدقيتها، إنها قصص سينمائية تنتمي إلى نوع من أفلام الجريمة والإثارة في الغالب، وفي معظمها تكون الضحية امرأة محتجزة، بعد أن تكون قد اختطفت لهدف ما، كالابتزاز والمساومة أو الاغتصاب أو القتل، كما نرى في فيلم "غير مرئي".
في فيلم "غير مرئي" للمخرج كوبر كارل وهو نفسه كاتب السيناريو سوف نتعرف على إيلين (الممثلة مادلين بيتش) وهي تسير إلى نهايتها بإقدامها على الانتحار عبر السقوط من أعلى المبنى الذي تسكن فيه، لكنها تفشل في ما أقدمت عليه، وسوف ننتقل بعد هذا المشهد مباشرة إليها وهي في المستشفى وقد اكتشفت للتوّ أنها عمياء.
من هذا المكان الذي يرعاها فيه ممرض أو طبيب سوف ننتقل إلى حيث تسكن، وبهذا الانتقال سوف نعيش يوميات تلك المرأة العاجزة عن الرؤية ولكنها كانت مرهفة الحسّ، وهي الموسيقية البارعة التي تروي تحت ظرف ما كيف تم الاعتداء عليها، وفي بلبلة وتشويش حواري مع رجل يفترض أنه رجل شرطة تصرّ على أن الدافع هو شخصها، والهدف هو إيذاؤها وليس أيّ شيء آخر.
دوامة مكانية
بالطبع سوف تدور الأحداث في حدود ذلك المربع الذي تحتجز فيه إيلين، وليس الذي تعيش فيه بمحض إرادتها وهي راضية به، على افتراض أنه المكان المناسب الذي اختاره لها شقيقها.
هنا سوف تحضر الشخصيات الأقرب إلى الخيالية؛ الشقيق، الممرض، الطبيب، رجل الشرطة. ويتوازى ذلك مع أصوات تتكرر في وقت محدّد في كل يوم، مثل صوت جهاز إنذار من سيارة قريبة وأصوات أخرى.
ما بين تراكم تلك الأصوات وتتابع الشخصيات المجهولة تعيش إيلين في دائرة لا تلبث أن تتسع لتشمل الشقة المجاورة التي يفترض أن تسكن فيها فتاة تستغيث بسبب ما تتلقاه من تعنيف من زوجها.
وهكذا يكون الخارج أيضا محمّلا بأصوات وشخصيات افتراضية أخرى، وبذلك ينغلق اللغز الذي يحيّر إيلين ويجعلها تتشكك في كل من حولها، تحاول استكشاف المكان الذي طغى عليه اللون الأزرق التركواز، ثم وهي تستجمع طاقتها لتفكيك ما تسمعه وصولا إلى لقائها الأول الغريب مع الجارة لانا (الممثلة ديسمبر إيسمنغر) التي تلتقط منها تحذيرا خلاصته: ألّا تثق بأحد قط.
تتعزز الدراما الفيلمية بهذا الخط السردي الجديد الذي يفتح لإيلين نافذة على المجهول الذي يحيط بها، والذي من فرط هشاشته وعدم توفر أسباب القناعة به فإنها تندفع نحو اكتشافه ولو بقدرة واهنة والمزيد من الخوف من النتائج المجهولة التي قد تترتب على محاولتها الخروج من تلك الدوامة.
واقعيا يلعب المكان دورا مهما في صنع تلك الدوامة وهي بالفعل دوامة مكانية بلا نهاية وخاصة بعد أن تقدم إيلين على محاولة الانتحار، لتجد نفسها وهي تسقط على وسائط مطاطية وغرف مانعة للصوت ومسار سوف يعيدها من حيث جاءت.
وإذا كنا قد استغرقنا في يوميات إيلين فإنها يوميات تتكامل مع دور كلايتون (الممثل ألكسندر كوتش) فهو الذي يلازمها ويهتم بها ثم يحاول استدراجها عاطفيا، ويفترض أنه هو نافذتها إلى العالم الخارجي والحارس الأمين لها، لكنه ليس كذلك، فهو يزيدها انغلاقا ويزيد من هلعها ممّا يجري حولها، ولا إجابات واضحة عما يجري من حولها.
وكما ذكرنا فإن الدوامة المكانية هي التي تجد الشخصيات نفسها وهي تدور فيها بينما تتبدد ذكريات إيلين وحياتها الموسيقية السابقة حتى بدأ تواصلها مع لانا، وحيث لن نجد في أفعال المرأتين سوى خضوع غريب للآخر المجهول الذي تريد إيلين الخلاص منه والذي عجزت لانا قبلها وهي مبصرة عن الخلاص منه أيضا.
انكشاف الخدعة
هذا النوع من أفلام الاحتجاز والإثارة وبسبب محدودية الأحداث، فإن المخرج يحمّله بأبعاد نفسية تتعلق باضطرابات الشخصية وكأنها تميل إلى الهلوسة والتخيلات، بينما يحيط بها مجهول من الصعب التغلغل فيه، ولهذا تكون نقاط وهن إيلين كافية لكي ينفذ كلايتون من خلالها حتى اللحظة التي تكتشف فيه إيلين تلك الزجاجة السحرية الصغيرة التي دلتها عليها لانا، وهي من نفس المادة التي تسببت في عمى إيلين وتلك هي نتيجة كلايتون، العمى.
ما بين تلك المساحة الضيقة للهرب وبين حقيقة كلايتون يقع المشاهد في حيرة أمام جميع الشخصيات التي ظهرت والتي فبركها جميعا كلايتون الذي تسبب في عمى إيلين، ومارس أشكالا شتى من المراوغة للوصول إلى أهدافه.
ولسوف ننتقل إلى طبيعة الشخصية السايكوباثية، كلايتون المحمّل بطفولة تعيسة يحتجز طويلا من طرف الأب فلا يسمع إلا موسيقى إيلين، ولهذا لا بدّ من تملكها بنزع بصرها، وذلك ما كان.
لا شك أننا مع هذا الامتداد الزمني والسردي كنا في أمسّ الحاجة إلى التنويع في الأداء أو في تحول دوافع الشخصيات وأفعالها بسبب حالة الانغلاق الكامل الذي تدور في فلكه الشخصيات، وهو ما نجح فيه المخرج وخاصة وهو يبث حبكات ثانوية من خلال ما سوف تكتشفه إيلين.
اقرأ أيضاً: هل تنقذ المنصّات الرقمية السينما؟