يوسف الناصر يصنع "المطر الأسود" من السخرية المؤلمة

خصصت مجلة الجديد في عددها السابع والثمانين لشهر أبريل 2022 ملفا كاملا يحتفي بالفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر وتجربته الفنية تحت عنوان “ظل الخطوة في أرض أخرى – رحلة نهارية صحبة يوسف الناصر”، وتضمن الملف حوارا مع الفنان تحت عنوان “حافة الضوء” وهو أيضاً عنوان المعرض الخاص الأحدث ليوسف الناصر في لندن، إلى جانب كتابات للفنان تحت عنوان “مطر أسود”، وكتابات شعراء ونقاد عن تجربته هم: شاكر لعيبي، فوزي كريم، فاروق يوسف، خالد خضير الصالحي وهاشم تايه. وقد ضم الملف عددا من الأعمال الجديدة للفنان.
لندن - كان الفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر في مختلف أعماله حريصا على ألّا يُثقل فنه بأزمات هي ليست من النوع الذي يكبل المصير البشري بشروطه. وهناك خيط من الأمل يحمله الرسم، بالرغم من أن لا شيء في الواقع يبعث على الأمل.
ربّما اختلفت موضوعاته التشكيلية وما يتناوله من قضايا في الوقت الراهن، خاصة ما بعد جائحة كورونا وحالة العزلة وما فرضته على الفنانين، إلاّ أنّ فعل الناصر الفني يسير في خط ناظم لا يختلف عمّا كان في مشروع فني متواصل. وهو ما فتحته أقلام عراقية مختلفة تناولت تجربة الفنان في ملف مجلة الجديد.
وكتب الفنان يوسف الناصر نفسه عن معرضه “مطر أسود” قائلا “ظننت أن روح العراق التي جفّت وأقحلت على مدى عقود طويلة من الظلم والعسف البربري الذي يقع خارج إمكانية اللغة على الوصف لن يعيدها إلى الحياة غير الطوفان العظيم الذي سجل به العراقيون القدماء بداية الخليقة وابتداء الحياة، إنه المطر الغامر الذي يغسل الأرض ويطوي التاريخ والآلام. ولكن المطر المرتجى لم يكن غير الحرب، ولأني شهدت فظاعات الحرب بنفسي على مدى سنوات في المنفى فقد سميت مشروعي ‘المطر الأسود'”.
عناصر تشكيلية
كتب الناقد التشكيلي والأدبي خالد خضير الصالحي “نبهتني معاينتي لتجربة الرسام العراقي المغترب يوسف الناصر إلى وجوب مراعاة أو التوكيد على اشتراطات عديدة منها إعادة التفريق القديم ما بين ‘الحقيقة’ و’المعرفة’ في الفن”.
وأضاف “لا نعتقد أن تمكن الرسام يوسف الناصر من وضع الألم والرسم على طاولة تشريح واحدة هو الأمر الحاسم في تجربته، وإلى الدرجة التي تصورها البعض، فالمهم برأينا أن هذا الرسام استطاع أن يجد المادة (بالمعنى الواسع للمادة والتي تتضمن: اللون، والمواد الملصقة، والتأثيرات التقنية..) التي تنتج صورة بصرية تعبر عن الألم وتشجبه، فالرسام غير مطلوب منه أن يقدم تقارير صحافية حول موضوعات تشغله، بل يتعامل مع مادة بصرية عليها أن تعبر دون تدخلات لغوية، وبأقل قدر من السردية التي تنتمي إلى اللغة”.
وشدد على أن سر النجاح الأكبر لتجربة يوسف الناصر تمكنه طوال تجربته، وفي معرض “مطر أسود” مثلا، من تحويل الموضوع إلى علاقات لونية يهيمن عليها اللون الأسود الفاحم غالبا، وإلى علاقات شكلية أي إلى “شكل جمالي”، فلم يعد الموضوع سردا نثريا قابلا للتحول إلى لغة حكائية.. لقد بقي الموضوع واقعة بصرية.. وهذا سر الأسرار في الرسم.. وفي تجربة يوسف الناصر.
وكتب الرسام والناقد هاشم تايه “يعمل الفنان يوسف الناصر بنزعة شديدة الاقتصاد تجعله يستخدم مواد محدودة، ويستعين بعدد قليل من العناصر التشكيليّة التي تكفي فعل الرسم لديه لإنجاز سطوحه التصويريّة، وإنتاج التأثير المطلوب في خطاب تشكيلي حريص على حماية تخومه من تسلل أيّ مفردة زائدة لا علاقة لها بهذا الخطاب الذي قرّر أن يصنع عالمه بالقليل الذي لا يعدو قلم الفحم والورق كمواد، والخطوط كعناصر تشكيليّة، وفي أحيان لونا مائيا من الغواش”.
الفنان يعمل بنزعة شديدة الاقتصاد تجعله يستخدم مواد محدودة ويستعين بعدد قليل من العناصر التشكيليّة في عمله
وأضاف “ينجز يوسف الناصر أعماله بنزعة تقويض واضحة تعتمد الهدم والمحو والاختزال لما يتشكّل ويتمّ بناؤه، وأسلوبه في الرسم يدحض، بلا هوادة، أيّ يقين جمالي، وهذه النزعة تجعله يفضّل مواجهة سطوحه التصويريّة من دون أن يُعدّ لها تخطيطات أوليّة مسبقة، وذلك يعني أنّه يباشر لوحته برؤية متحرّرة معنيّة، أوّلاً وأخيراً، بإطلاق قوى داخلية ضاغطة ترتسم على الورق مبهمة، غير قادرة على الإفصاح، ولا يُرى منها على ورق الرّسّام غير ما يمثّل طاقتها واحتدامها.
وتابع تايه “وبالقدر الذي يستفرغ فيه يوسف الناصر انفعاله الطاغي واحتدامه الداخلي ويتخلّص منهما في عدد من اللوحات، تتهيّأ أمامه الفرصة ليرسم بهدوء وصفاء يسمحان له في عدد آخر من الأعمال بتأمّل المظهر الجمالي لمفرداته والاستجابة لمطالبها جمالياً. وفي هذه الحالة نكون أمام القسم الآخر من أعماله، القسم الذي يدحض اليأس بتأمّل مفردات الجمال على سطح تصويريّ عُنيَ ‘اليائس’ بتنظيمه بالخيال والعقل”.
وكتبت الناقدة أليكس روتا “أعتقد أن سلسلة لوحات الناصر الأخيرة عن الحرب ‘المطر الأسود’ كانت مثل متنفس عاطفي كبير له، إنه يتوقع الكثير من لوحاته لنفسه. إنها لوحات عملاقة مليئة بالألم والوحشة، ولكن مع ذلك أشعر أنه كان يستمتع برسمها، ومع ذلك لم ينس سخريته المرة الخفية التي ليس من الصعب تلمسها على العين المدربة”.
وأضافت “أنا غير متعودة على الحديث إلى الكاميرا، أنا متعودة على إلقاء محاضرات، ويبدو أنها أسهل من الحديث إلى هذه الآلة. بين يديه دائما تخطيطات صغيرة ينشرها أحيانا في الصحف، تذكر المرء بسهولة بالتعبيريين الألمان، ورغم أنك تستطيع أن تجد أجزاء منها في اللوحات الكبيرة، إلا أنه، كما قال لي، لا يبدأ الرسم من شيء محدد، يحضر قماشته وألوانه (إن وجدت) ويبدأ دون خطط من أي نوع (…) إنها عملية تشبه الهمهمة التي تقود إلى أغنية، لكن أي شيء يفعله على سطح اللوحة، خط، خربشة، أو بقعة لونية هي التقاط لمشاعر وعواطف وانفعالات دفينة، إنه لا يقدر إلا أن يفعل ذلك”.
وتبين في ورقتها أن لوحات الناصر تقع في مكان بين التجريد والتشخيص، أشكال شبحية غير واضحة المعالم، لكنها هيئات أشياء وأشخاص وأرواح من الحاضر ومن الماضي.
انشقاق جمالي
كتب الشاعر والناقد الفني العراقي شاكر لعيبي أنه “لا يمكن مقاربة أعمال الرسّام يوسف الناصر (ولد في مدينة العمارة عام 1952) إلا انطلاقاً من انشقاقه الجليّ عن التيّارات، بل التيّار الجماليّ، الأساسيّ الذي يهيمن على فن التصوير في العراق منذ سنوات السبعينات في الأقلّ، إذا لم يكن قبل ذلك قليلاً”.
وأضاف “من وجهة معينة يمكن قراءة رسمه على أنه فن التأمل الصعب الذي لا يتيسَّر تذوُّقه لجميع الواقفين بانخطاف إزاء الرسم الزاهي الطاغي. ومن وجهة أخرى يمكن قراءة موقفه الوجوديّ الإشكاليّ من العالم والكائنات بالمقارَبة مع موقف كاتب مثل صموئيل بيكيت”.
يوسف الناصر هو واحد من أهم الرسامين العراقيين الذين ألهمهم خراب بلادهم موقفا جماليا مضادا للجمال المتاح
وتابع لعيبي أن “انشقاق الفنان الجماليّ الذي لا يشك أحدٌ به، أحبّه أم لم يفعل، لم يمنع للحظةٍ أن يكون من المثقفين المهمومين، الملتاعين بالمشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية للعراق، بل بالتزامٍ إذا تطلّب الأمر. يا للمفارقة ويا للجمَال. هنا درس منسي من طرف النقد التشكيليّ العراقيّ الذي لا يرى إلا بعين واحدة”.
أما الشاعر فوزي كريم فكتب عن الناصر “الذي يرقبه وهو يرسم، أو يطلع على أعماله المتراكمة فوق بعضها، يكشف عن شيء من سر صنعته. إنه لا يطمئن إلى أيّ رؤية نهائية. يختار موضوعه دون مضمون مضمر: رأس، منظر طبيعي، بورتريه، بحر. يبدأ فرشاته ساعياً إلى المزيد من الحركة، التي تتحول مع الزمن إلى المزيد من الاحتدام. فرشاته تضرب في اتجاه بعينه. ولذلك تبدو الحركة وكأنها تبدأ من ركن بعينه. ولكن ما أن تحتدم حتى نتبين أنها تتولد من ذاتها وتتجه الى مركز هذه الذات”.
وتابع كريم “في مشروعه الفني ‘المطر الأسود’ تحقق مسعى الإسكيتشات المتعجلة لتكتمل في لوحات بالغة الضخامة، تتنازل عن كثافة الألوان التي تكاد تهدف الى استفزاز العين، لتركن إلى الأسود والأبيض، أو ما يجاورهما. كثافة الحركة والخطوط والألوان داخل حصار اللوحة الصغيرة وجدت راحتها في متسع اللوحة الكبيرة، ومعها وجد الفنان ضالته، وميدانه التعبيري”.
لحظة اصطدام
جاء في شهادة الشاعر والناقد فاروق يوسف “حين رأيت جزءاً صغيرا من تجربة ‘مطر أسود’ للفنان العراقي (المقيم في لندن) يوسف الناصر ملأني شعور غامض بأني أعيش لحظة اصطدام كوكبين ببعضهما. وهذا ما كتبته إلى الرسام مباشرة. شيء من هذا القبيل الذي يبدو عصيا على الحواس المباشرة والذي لا ينتظر القبول أو الرفض، يقع مثل التوتر الذي ينتج لغة لا يمكن استعادتها مرة أخرى. من خلال تلك الرسوم سعى الناصر لأن يمزج ما بين وعيه وعاطفته، بين عقله وقلبه، بين رغبته في التعبير عن مزاجه المحطم ومحاولته تجسيد ما جرى لبلده الذي يعيش بعيدا عنه منذ أكثر من ثلاثة عقود”.
وأضاف “ربما لا نعرف إلا في الأوقات العصيبة أن ما هو ضروري للرسم يفعله الرسام الحقيقي. وهو ما فعله يوسف الناصر في ‘مطر أسود’. ترف أن يكون الرسام موجودا في رسومه قد تحقق في تلك الرسوم من غير أن يمتزج ذلك الفعل بأي نوع من الخيال النرجسي. لقد أتاحت تلك الحرب بصيغتها ما بعد الحداثوية للرسام أن يتسلل إلى ألم بلاده، أن يكون موجودا في لحظة الألم لا ليكون ضحية فقط بل ليكتسب خبرة ألم مباشرة أيضا. وهكذا يمكنني أن أجازف بالقول إن الناصر هو واحد من أهم الرسامين العراقيين الذين ألهمهم خراب بلادهم موقفا جماليا مضادا للجمال المتاح بمعناه التاريخي”.
وتابع يوسف “فتلك الرسوم التي رأيتها وهي جزء من مشروع كبير لم تكن شهادة على ما جرى في العراق من جريمة بل هي رد الفعل الذي يقاوم تلك الجريمة. وهي الفكرة التي تنبثق من مفهوم جذري لوظيفة الرسام بما يجعل تلك الوظيفة تتعلق بنوع من الوهم الجميل الذي يعيد صياغة الواقع. إن المزق التي يجمع يوسف الناصر فتاتها من الواقع لا تشكل إلا الخامات الأولية التي تلهمه تقاطعاتها صورا مستخرجة من عالم خفي. فما يخلقه الرسام لا يصدر عن الواقع دائما”.
* ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية