يقاتلون القذافي وصدام وبوتين، ويباركون نتنياهو

لا يعرف أحد من أين ولا كيف ولا متى وصلت إلى المتظاهرين وغصت بها الشوارع والميادين. ثم وعلى الفور راح الإعلام العالمي، والعربي، وقناة الجزيرة القطرية في الطليعة، يبشر بأنها ثورة تحررية شعبية مباركة ضد ظلم العقيد وأولاده وأنصاره. لقد توحدت على استهدافه دول حلف الأطلسي.
حتى الجامعة العربية التي حافظت على طبيعتها التوفيقية الباهتة المترددة في كل تاريخها، سارعت، هي الأخرى، إلى نزع ثوب وقارها، ودعت إلى طلب التدخل العسكري الدولي لحماية المدنيين من نيران طائرات العقيد ودباباته، دون دليل، ودون تروٍّ وانتظار. ثم كان ما كان، وسقط النظام، وألقي القبض على العقيد حيا، ثم جاءت الأوامر بقتله برصاصة غادرة على رأسه، وينتهي كل شيء.
لم يكن السبب، كلّه، إيمانا بحقوق الإنسان الليبي، ولا حمايةً للمدنيين العزل من انتقام النظام الليبي، كما كانوا يدّعون، بل كرها بشخص القذافي، وحده، وانتقاما منه، وردا على إهاناته السابقة للكثير منهم، علنا وعلى شاشات التلفزيون.
وقد أخطأ سيف الإسلام القذافي، يومها، حين هدّد علنا، وعبر تلفزيونات عالمية، بعرض وثائق تثبت تسلم الرئيس الفرنسي ساركوزي رشوة مالية كبيرة من مخابرات النظام الليبي لمساعدته على الفوز في الانتخابات. فقد كان هذا التهديد دافعا مضاعفا لرئيس فرنسا القوية لكي تتشدد في ضرورة إسكات القذافي، وبسرعة. وكان له ما كان يريد.
يعني أن ما حدث في بنغازي كان يمكن أن يُلم ويُعالج بالتي هي أحسن، وتنتهي المشكلة، ولكن الكره الشخصي للقذافي كان هو الجامع الذي وحّد عليه دول العالم الكبرى والصغرى على السواء، إذ أنه، رحمه الله، لم يوفر بلدا ولا شعبا ولا زعيما، في الشرق والغرب، إلا لذعه ببيان من بياناته المجلجلة، أو بأمواله أو بمخابراته أو مفخخاته أو بفتاواه المستغرَبة في السياسة والاقتصاد والثقافة والعروبة والدين.
◙ منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، تتناقل الدنيا أخبار انتصارات نتنياهو على أطفال غزة ونسائها وشيوخها، وعلى جنوب لبنان والضاحية الجنوبية، وسوريا واليمن، وغداً على العراق
وقبله، حين تورط صدام حسين بغزو الكويت هبّت عليه الدنيا كلها، من شرقها إلى غربها، بعربها وعجمها، دفاعا عن الحق المسلوب، واحتراما لقدسية سيادة الدول، فشنت عليه ثلاثون دولة، أميركية وأوربية وعربية، حرب الحروب التي لم يحدث مثلها في البلاد،. حتى أن القائد الأميركي الشهم الشجاع (شوارزكوف) لم يكتفِ بتحرير الكويت وبدء انسحاب القوات العراقية منها، بل أدار ماكنة القتل الحارقة على تلك القوات، وهي في طريقها إلى العراق، فأحرق ودمر الكمائن والآليات بمن فيها من ضباط وجنود، دون رحمة وبلا قلب وبلا ضمير.
وها هي أميركا وأوروبا، وعلى مدى عشر سنين، مجتمعة، بجيوشها وأموالها، لتقاتل روسيا فلاديمير بوتين بزعم الدفاع عن حرية الشعب الأوكراني البريء، وسيادة بلاده، ورفض الغزو والاحتلال والاعتداء.
لكن، وعلى الجانب الآخر، ها هي الدنيا كلها، منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي وإلى اليوم، تتفرج، وتتناقل أخبار انتصارات بنيامين نتنياهو على أطفال غزة ونسائها وشيوخها، وعلى جنوب لبنان، والضاحية الجنوبية من بيروت، وعلى سوريا واليمن، وغداً على العراق، يقتل المئات كل يوم، والآلاف كل شهر، ويدفنهم تحت أنقاض منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومساجدهم وحسينياتهم وكنائسهم، ويُهجّر الناجين من صواريخه الحارقة، على شاشات التلفزيون. وكأنّ ما يجري مسلسل فكاهي مبتكر كتبه نتنياهو وأخرجه جو بايدن ونائبته كمالا هاريس، وباركه مجلس الأمن الدولي، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، باعتباره حقا مشروعا في الدفاع عن النفس، لا غبار ولا اعترض عليه.
وكما هو معلن ومبيّن، وبالتفاصيل، تتهيأ الحكومة الإسرائيلية المدعومة من الدول العظمى والصغرى لتواصل حروبها دون توقف، والعالم يتهيأ، معها هو الآخر، للمشاهدة المسلية لوقائع حرب قادمة، دون أن يتذكر أحد منهم سيادة وعدالة وحقوق إنسان. نظام الولي الفقيه في إيران هو الآن نسخة أخرى مكبرة من الجماهيرية الليبية السابقة، ومن عراق القائد الضرورة، ولن يكون مصيره مختلفا كثيرا عن مصير القذافي وصدام حسين.
طبعا، لا يتمنى مواطن عراقي أو عربي عاقل وعادل أن تنهار إيران، وألا تكون عزيزة وآمنة ومستقرة ومزدهرة، تعيش بأمان وسلام مع مواطنيها، وتـُصدِّر خيراتها وإبداعات شعبها إلى جيرانها والعالم، بدل المال والسلاح والجواسيس، دون عنجهية وأحلام إمبراطورية غير واقعية يستحيل تحقيقها.
وغدا حين تباغت حكومة نتنياهو جارتنا الشقيقة، فتدك موانئها ومطاراتها، وتهدم مدارسها ومستشفياتها على رؤوس أهلها، لن نتشفى، بل فقط سنُذكّرها بمنطق التاريخ القائل، لا قويّ إلا زهناك الأقوى منه والأعنف والأشد، ولا ظالم إلا وهناك الأكثر منه ظلما وإثما وعدوانا، و(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)”.
الخوف من أن تختفي إيران التي نعرفها، وتصبح مثل يوغسلافيا السابقة أو الاتحاد السوفييتي البائد، جمهوريات مستقلة، متآخية في حين، ومتناحرة في باقي الأحايين، ونعود فنحزن ونشقى بسببها من جديد.