"ظل يسقط على الجدار".. تأملات بأعين الطفولة والفلسفة

تدعم تجربة الكتابة المفتوحة خارج التجنيس الأدبي حرية الكاتب للخوض في مواضيع متشابكة والتوسع فيها والربط فيما بينها بأساليب متعددة، دون احتراس من حدود الجنس الأدبي خوفا من الخروج عنه. وفي هذا التمشي كتبت العمانية منى بنت حبراس السليمية نصوص كتابها الجديد “ظل يسقط على الجدار”.
عمر الخروصي
مسقط- تنهض نصوص “ظل يسقط على الجدار” للكاتبة العمانية منى بنت حبراس السليمية على استثمار مرحلة الطفولة بتفاصيلها، واستعادة الزمن الخاص بها، وتشكيل عالم سردي ثري منها، طارحة قضايا وجودية عميقة تتعلق بالبحث عن الذات وكينونتها، وبالحب والزمن والذاكرة.
ولا شك في أن إسناد البطولة لتلك الطفلة التي كانتها المؤلفة يوما مكنها من التركيز على البؤرة المركزية التي تبنى حولها دوائر الحياة، وتتسع باتساع الزمن، فمرحلة الطفولة هي بداية تشكل وعي الإنسان تجاه ذاته ومحيطة الاجتماعي والطبيعي، متسلحا بالفضول إلى المعرفة وحب المغامرة والاكتشاف؛ اكتشاف الذات من خلال الآخر المحيط بها.
الطفولة والفلسفة
تستثمر السليمية طفولتها في نصوص عديدة، نجد مثال ذلك في نص “الفتاة في المرآة”، حيث الطفلة التي تحب ممارسة هواية الكلام مع صورتها المنعكسة في المرآة، وتستمر في تلك العادة رغم ما تلاقيه من ردود أفعال متوجسة مما تقوم به، لتكتشف في النهاية أن “فتاة المرآة” علّمتها أن المتلقي الأول للكاتب هو الكاتب نفسه، وأن الحكم على ما يقوم به الإنسان من أفعال وأقوال يبدأ من تفكيره بها، وحكمه الذاتي عليها.
وعلى هذه الشاكلة، جاءت نصوص الكتاب، الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع دار الرافدين (2023)، محملة بأبعاد فلسفية تتوارى خلف الكلام، وكأنها الظلال التي تداعب فكر القارئ مستثيرة وجدانه وعقله؛ لتحثه على إسقاط تجربته الذاتية التي تتقاطع في أجزاء منها مع تلك الأحداث التي ترويها الكاتبة، وهو ما يؤكد أن منى حبراس تكتب ببعد إنساني شامل، كما في نصها “لهاث” الذي يتأمل حياة الركض المستمر التي يعيشها الإنسان في مراحل حياته الأولى، محاولا القبض بقوة على كل فرصة له سواء أكانت مؤقتة أو دائمة، ثم كيف تتحول تلك الحالة فيما بعد من اللهاث إلى حالة من الكسل وعدم الرغبة في فعل شيء غير الجلوس بصمت.
وتتناول الكاتبة في نصها “أمي وشريط الندم” خصوصية العلاقة التي تجمع الإنسان بأمه، وتؤكد في قراءة فلسفية متأنية لتلك العلاقة: “نحن محكومون بالمستحيل عندما يتعلق الأمر بأمهاتنا”، و”الأمهات لا يربيننا وهن على قيد الحياة، إنهن يبدأن في تربيتنا بعد رحيلهن”. هاتان العبارتان وسواهما بمثابة حكم مستخلصة من تجارب بقدر ما هي خاصة وذاتية وفردية، هي أيضا عامة وتنطبق على غالبية البشر وتلامس العمق منهم.
ويحضر الموت في نصوص المؤلفة كمكون لصيق بالحياة، وهي تصفهما “الحياة والموت”، كما لو أنهما يمارسان مع الإنسان لعبة الغميضة ويبحثان عمّن سيتم الإمساك به في اللحظة الحاسمة، فتقول الكاتبة “كلاهما منزوع الأهلية والإدراك، نعرف أنهما يعبثان بنا، ورغم ذلك نجدنا مرغمين على الاختباء والهرب، ليس بداعي مشاركتهما اللعب، ولكن لأن المخْرج منهما مفقود، ولا خيار ثالثا يمكن أن ينهي لعبتهما العنيفة بخسارتهما معا”.
وفي النصوص التي تناولت الموت ثمة ما يعزز الفكرة التي تتبناها الكاتبة، فمثلا حين قامت الطفلة بطلاء أظافر جدتها بـ”المانيكير” احتج أفراد العائلة على ذلك، لكنها بعد رحيل الجدة لم تكن تتذكرها إلا وهي تضع الطلاء الأحمر. وفي رحيل أختها “عليا” التي لم يتجاوز عمرها السنوات السبع لم تفطن الكاتبة لما يعنيه الفقد إلا حينما عادت إلى المدرسة من دون أن ترافقها “عليا”.
وتفرد الكاتبة نصا طويلا عن رحيل السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، تستثير فيه ذكرياتها حين رأته – وهي طفلة – في الموكب وتسمرت عيناها في تتبعه، ثم تستحضر مشهدا آخرا في عيد الأضحى بعيد حصوله على جائزة السلام الدولية، وحضوره مهرجانا يحمل اسمها، وتستمر في تذكر مواقف عديدة به.
قضايا ثقافية
تدعم الكاتبة نصها باستحضار مكونات البيئة العمانية، محاولة عبر اشتباكها مع هذه البيئة، الاقتراب من ذاتها وفهمها، والاقتراب من الآخر وتحليل علاقتها معه، فنتعرف على لباس “الليسو” الشعبي العماني، ونجوب مدنا من مثل “روي” و”الخوض” و”بوشر” و”سمائل”.
إلى جانب ذلك تقدم النصوص نماذج من الثقافة العربية والعالمية، ففيها قد تذكر الكاتبة اسم كتاب أو رواية قرأتهما، أو مقطوعة موسيقية سمعتها، أو فيلما شاهدته أو مسلسلا تلفزيونيا. ويتم توظيف ذلك في النص بطريقة سلسة لا إقحام فيها أو استعراض، كما يتم توظيفها لبعض شخصيات المسلسلات في حديثها، أو تقاطعها مع كتابات إمبرتو إيكو، واستحضارها لروايات جورج أورويل، مؤثثة نصوصها بقراءتها الخاصة لهذه الثقافة، ومركزة الضوء على الفكرة الرئيسة التي يدور حولها النص.
وربما يشير الإهداء إلى أهمية القراءة والفضول المعرفي في تشكيل ذواتنا ووعينا “إلى شغف القراءات الأولى وزكي محمود؛ فيلسوفا، وكاتبا وصديقا”.
من هنا، تتميز نصوص الكاتبة منى بنت حبراس السليمية بأنها تطرح قضايا ثقافية واجتماعية وسياسية عامة، وتضيء تجارب محلية وعالمية، وتدمج كل ذلك في بوتقة رؤيتها الذاتية لتلك القضايا، وتبدأ في التحليل والتخيل لتكشف عن جوانب لا تلحظها سوى عين خبير مدربة على التقاط إشارات الحياة.
ويضم الكتاب أربعة أقسام أساسية هي “الطفولة وبعدها كل شيء”، و”أرواح صنعت ذاكرتي”، و”الأشياء في بحثها عن المعنى”، و”الكتابة فنا للعيش”، وفي كل منها مجموعة من النصوص التي تتسم بالإيجاز والتحليل، حيث تعرض الكاتبة أفكارها حول الموضوع الذي تتناوله بدقة وإيجاز، مع الاعتماد على التحليل العميق لأبعاد هذا الموضوع واستخراج النتائج والتصورات.
يذكر أن الدكتورة منى بنت حبراس السليمية حصلت على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عن فرع الآداب في مجال المقالة لعام 2022.