ياسين طه حافظ شاعر عراقي سعيد بعزلته

مسافة صعبة يجتازها شعر حافظ، من القصيدة المنضبطة إيقاعا وقافية إلى قصيدة النثر، كما لو أنه يفعل الشيء نفسه دائما.
الأحد 2020/04/12
ياسين طه حافظ بين وحش الذاكرة وأجنحة البجع

”وهج الله شبَّ بجنحي البجعة، فطارتْ لتحط على بحيرتي الساكنة. ذلك ما كتبتُه يوما حين تركت المنصة، لتنزل وتجلس جواري على وشك التقبيل. لم تكن بيننا جلسات مسائية، ولا مواعيد، ولا حتى نظرات ذهبية راعشة، فكيف شب الوهج الإلهي بجنحي البجعة، لتطير وتحط على بحيرتي الساكنة“.

سيقف وحيدا دائما. لم يكن ابن جيل بعينه. لا على صعيد الأفكار ولا على صعيد التقنيات. كان ابن تجربته الشعرية التي اخترقها الزمن فكانت مزيجا من ذائقتين لغويتين. ذائقة تم تكريسها انطلاقا من كونها فاتحة الشعر الحر وذائقة أخرى كانت تتشكل وتتحول بتأثير التحولات التي شهدها الشعر في العالم.

ياسين طه حافظ مثله مثل شعراء عراقيين مهمين آخرين لم يحظ بالشهرة في العالم العربي لأنه اكتفى بنشر كتبه الشعرية داخل العراق. يقترب في ذلك من يوسف الصائغ وحسب الشيخ جعفر.

منذ بداياته كان تجريبيا بالرغم من أن شيئا من السياب كان قد تسلل إلى محاولاته الشعرية الأولى التي قدمته شاعرا قويا. وعبر مسيرته الشعرية لم يكن حافظ من الأدباء الذين يحبون الاستعراض ولم يتملكه حب الظهور. لم أره يقرأ في مهرجان شعري أو ملتقى أدبي. ربما حدث ذلك في وقت متأخر. ذلك لأن شعره لا يصلح للتواصل العلني. شعر يُقرأ بصوت خفيض.

الواقف بين جيلين

[ تجربته الشعرية هي انعكاس لتجربته الحياتية. ففي أعماق حافظ تتصارع شخصيتان. هناك الريفي الذي يلمس نضارة الأشجار بتوق رومانسي يعيده إلى لحظة الاكتشاف الأولى، وهناك رجل المدينة المتأنق.
تجربته الشعرية هي انعكاس لتجربته الحياتية، ففي أعماق حافظ تتصارع شخصيتان. هناك الريفي الذي يلمس نضارة الأشجار بتوق رومانسي يعيده إلى لحظة الاكتشاف الأولى، وهناك رجل المدينة المتأنق

شاعر مختلف. اختلافه فرض عليه عزلة شخصية وموضوعية مزدوجة. فعلى المستوى الشخصي دأب على تطوير تجربته الشعرية بعيدا عن المؤثرات المؤقتة والظواهر الآنية، وعلى مستوى موضوعي لم ينضم الشاعر إلى جماعة فنية ولم يكن جزءا من جماعة أدبية وفي ذلك فإنه ظل غريبا عن المشهد.

تجربته الشعرية هي انعكاس لتجربته الحياتية. ففي أعماقه تتصارع شخصيتان. هناك الريفي الذي يلمس نضارة الأشجار بتوق رومانسي يعيده إلى لحظة الاكتشاف الأولى، وهناك رجل المدينة المتأنق بلغة التقنيات الحديثة، المسلح بالمعرفة.

آلف حافظ بين شخصيتيه فكان شعره مزيجا من رومانسية تضفي على الكلمات بعدا عاطفيا وتجريدية هي صنيعة حياة مشتبكة بغموضها. لذلك يبدو شعره كما لو أنه حوار بين عالمين.

في قصيدة واحدة يتنقل الشاعر بخفة بين الحقول الشاسعة المستلقية تحت الشمس وشوارع المدن الفارهة بناطحات سحابها الحديدية. غير أنه غالبا ما يحسم موقفه ليعود إلى منبعه الذي يستعيد هو الآخر هيأته باعتباره وهما يستقر في جوف الذاكرة. “الوحش والذاكرة” هما طرفا المعادلة التي لن تستقر.

شعر حافظ كما لو أنه حوار بين عالمين
شعر كما لو أنه حوار بين عالَمين

“جئت من قرية ربما

اندثرت

وتموتُ هنا نبتةً سيئة

بين أنْ يُشفقَ العابرون

عليها وأنْ يُرجئوا تاركين إلى زمنٍ

آخر قلعها

هكذا

كبرتْ.

عدتُ يوماً، خلعت رباطي وعلّقته

وخلعتُ بلا أسفِ بدلةَ الحفل،

جلدَ المهرّجِ،

ورأيتني أرجع بعد الغياب لذاك

الطبق

ولذاك الحصير،

شعر حافظ صنيعة حياة مشتبكة بغموضها
شعر حافظ صنيعة حياة مشتبكة بغموضها

وأنا خجلٌ من يديَّ ووجهي،

خجلٌ أنني بعد كل الزمان،

أرى ما رأى البابلي:

الحقيقةَ من خشبٍ،

هي تُحرق أو يأكل السوسُ أحشاءها،

أو تكون

مقعداً أو سرير”.

ولد في بغداد عام 1936. قضى صباه ومراهقته في بعقوبة، هناك حيث انتقلت عائلته. عاد إلى بغداد ليدرس اللغة الإنجليزية في كلية التربية بجامعتها ومن ثم يتخرج عام 1961. عمل في تدريس اللغة الإنجليزية. بعدها انتقل للعمل بوزارة الثقافة سكرتيرا للتحرير في مجلة “الطليعة الأدبية” وبعدها أسس مجلة “الثقافة الأجنبية” ورأس تحريرها.

أصدر كتابه الشعري الأول “الوحش والذاكرة” عام 1969. بعده أصدر أكثر من خمسة عشر كتابا شعريا. إلى جانب ذلك قام الشاعر بترجمة عدد من الكتب الروائية والجمالية كانت في مقدمتها ثلاثة أعمال للروائي الإيطالي إيتالو كالفينو هي “مدن لامرئية“، “المصائر المتقاطعة” و”السيد بالومار”. وبالرغم من أنه ترجم لكالفينو عن لغة ثاثلة هي الإنجليزية غير أنه استطاع أن ينفذ إلى جوهر النصوص الأصلية بسبب تمكنه من أسرار الحبكة الشعرية التي كتب كالفينو من خلالها أعماله الروائية.

سيُقال إن الشاعر هو الذي يبقى. ذلك صحيح، غير أنه في حالة ياسين طه حافظ حكم ناقص. وهنا لا أقصد المترجم الذي لا يرغب حافظ نفسه في أن يقف إلى جانب الشاعر بل أقصد الرجل الذي وقف وراء مجلة “الثقافة الأجنبية”. ذلك المشروع الذي تُرجمت إلى العربية من خلاله نصوص شعرية وقصصية ونقدية من مختلف لغات العالم.

لقد وهب الشاعر وقته العزيز إلى تلك المجلة فكان في معظم الوقت محررها الوحيد. قضى سنوات طويلة حاملا قنديله ليضيء عتمة الطريق في اتجاه آخر ما ينتجه الأدباء العالميون من نصوص في بلد، حرمته العزلة من رؤية العالم واللقاء به والتعرف عليه. كانت “الثقافة الأجنبية” نافذة فتحها الشاعر بأريحية وخفة ورغبة عظيمة في تنفس هواء الحرية.

الشاعر ملهما ورقيبا

[ حافظ، مثله مثل شعراء عراقيين مهمين آخرين، لم يحظ بالشهرة في العالم العربي لأنه اكتفى بنشر كتبه الشعرية داخل العراق. مقترباً في ذلك من يوسف الصائغ وحسب الشيخ جعفر.
حافظ، مثله مثل شعراء عراقيين مهمين آخرين، لم يحظ بالشهرة في العالم العربي لأنه اكتفى بنشر كتبه الشعرية داخل العراق. مقترباً في ذلك من يوسف الصائغ وحسب الشيخ جعفر

سيبقى الشاعر بالتأكيد. غير أن أثرا من حافظ سيبقى عالقا بثقافة أجيال وهبتها مجلته التي هي مجلة رسمية فرصة الاطلاع على الأدب الأجنبي.

”سادتي

شاعر حمل قنديله ليضيء عتمة الطريق
شاعر حمل قنديله ليضيء عتمة الطريق

ما قصصت عليكم حكايات آبائنا

أو كشفت خيانات أصحابنا.

أنا ما أضحكتكم سطوري

ولا أرسلتني ملهمة الشعر كيما أجيء

لسادة هذي القصورِ

بأحلى الثمار وأقوى النسورِ

فأنا رجل صائغ جاء من عالم آخر

يصنع من فكرة طائراً،

يصنع من طائر فكرةً،

يصنع من نفسه خبراً للعصور“.

من القصيدة المنضبطة إيقاعا وقافية إلى قصيدة النثر مسافة اجتازها حافظ كما لو أنه يفعل الشيء نفسه دائما. كان الشعر هدفه، لذلك فقد كان يلهو بالأشكال التي يعرف أنها جزء من اللعبة وليست اللعبة كلها. قادته طريقته الخاصة في التفكير في الشعر إلى أن يحدث تغييرا في الشكل ينسجم مع تحولات علاقته بالعالم. غير أنه في كل الأحوال كان عقلانيا يقف متسائلا بدهشة أمام عالم لا يمكن احتواؤه إلا عن طريق إعادة صياغته.

“في الخرائب حلية ذهب” عنوان أحد كتبه وهي جملة، فيها ما يمكن أن يوضح علاقته باللغة. وهي علاقة قائمة على الصقل كما يفعل الصائغ. ما من كلمة يمكن استبدالها بكلمة أخرى أو حذفها. ليس من أجل المعنى بل لأن شحنة الشعر ستكون ناقصة. لا أظن الشاعر يكتفي بالكلمات مثلما تحضر لحظة كتابة القصيدة، بل أنه يعيد النظر فيها مرات ومرات إلى أن يتأكد أنها الكلمة المقصودة. القصيدة لا تكتمل إلا بعد أن تمر بمراحل يغلب عليها طابع الكتابة، بما تنطوي عليه من عمليات رقابة.

شعر أشبه بحفلة تتصادم فيها المشاهد البصرية بالأفكار
شعر أشبه بحفلة تتصادم فيها المشاهد البصرية بالأفكار

”يتفتح الزهر المطالب بالحياة

يؤم مخبأها فيحتل الهضاب

ويلم في الوديان أنجمه ملونةٌ

وتخفق في فضاء الله قبرة الشباب.

حتى تجيء لنا الحياة ببزة أخرى

مدججة وغاصبة تدوس على الرقاب

فنعود نسحب أرجلاً تعبت من  

اللاشيء

ثم نلوذ، نرجو بقعة من شمس ذاكرة

تدفئ أو تعوض عن غياب.

حتى تزول ممالك أولى ورثناها،

فليس

 سوى بؤساء، في أطمارهم

شاعر استطاه أن ينفذ إلى جوهر النصوص الأصلية
شاعر استطاه أن ينفذ إلى جوهر النصوص الأصلية

يتسولون

وعوالم نكصت وأبراج خراب.

الأرض صدت وجهها، وتدثرت

بجفاف آب

ما عاد من خيط على الأفق

البعيد

أشجارنا يبست

وأوجهنا تموت على الكتاب“.

عرف ياسين طه حافظ كيف يتحكم بعاطفته، فكان شعره أشبه بحفلة تتصادم فيها المشاهد البصرية بالأفكار، فلا ينحاز إلى الوصف أو إلى التأمل التجريدي.

9