وعن العربية أساطير
أعادت أحداث باريس الدّامية إلى دائرة الضوء ظاهرة تدريس اللغة العربية في أوروبا، سواء أكانت تلك الدّروس تلقى رسميّا في المؤسسات الحكوميّة، كالمعاهد والجامعات، أم شكليّا، في المجالات الخاصة كالفضاءات الجمعياتية والمساجد.
وقد أكّد الملاحظون أنّ في المجالين قصورا وتقصيرا، لا يتأتّيان من قلّة في المناهج والمقرّرات، فهي تفوق الأربعين منهجا تربويّا تترى منذ قرنين، ولا من ندرة في رجالات التعليم، فهم كثر: جلّهم من مهاجري العالم العربي الفصحاء، وبعضهم من الفرنسيين الأصليين الذين ينافسون أهل الضاد إتقانهم للغة عنترة والمتنبّي.
ولكنّ القصور والتّقصير كليهما يتأتّيان من جملة الأساطير التي تحيط بدراسة اللغة العربيّة وتدريسها في الغرب، والأسطورة -عند علماء الأنثروبولوجيا- سرد وقصص ينتجهما الخيال لربط البدايات بالنهايات وتعليل الظواهر بالغايات، وغالبا ما تقرن العربية بمتخيّلات ألف ليلة وليلة ومغامرات شخوصها، حتى لكأنّ اللغة جسد شرقيّ بضّ يتواجد أمام العازفين.
كما يقترن تعلمّها -وهو شاقّ- بالقدرة على النفاذ السريع في آي الفرقان وتأويلها، رغم أنّ ذلك مقصور على الرّاسخين في العلم. في حين يحلم ناشئة المتعلّمين بالإثراء السريع، من خلال عقد في البتروكيـميـائيات بإحدى دول الخليج.
ولئن تطوّرت مناهج تدريس اللغة العربية في فرنسا بعد مرور أكثر من قرنين على إدماجها في معاهدها فإنّ النّظرة الموضوعيّة إليها لا تزال في بداياتها.
وقلّ بين طلاّبها -وقد أناف عددهم على المئة ألف- من يعتبرها لغة تواصل، شأنها شأن سائر لغات العالم، نسمّي بها - نحن معشر العرب- أشياءنا، وننقل عبرها وجْد الواجدين، وعليها يعتمد أهل الدبلوماسية منا في إظهار لباقتهم ونحت جملهم الخشبيّة.
تكمن اليوم القطيعة المعرفية لدراسة العربيـة، في إحاطتها بهالات الأساطير التي قد تعيـق تعليمها كلغة حيّة، وتحول دون تطويرها وانسيـابها بكفـاءة فاعلة، وتحقـيق إنجازات تواصليـة: تواكب وتـائر الحداثــة المتســارعة، وتمـلأ صحف الجرائد، وتصف كلّ تفـاصيل الفضـاء الافتراضي الذي يغرق العربي الجديد.
أوروبا اليوم هي أحوج ما تكون إلى عقلنة التّعامل مع اللغة العربية، وترشيد مناهجها ونصوصها، وعلمنة غاياتها، وزيادة نشرها في الآفاق، وتثمينها في نظر المنتمين إليها ثقافيّا، وإن عزّ عليهم امتلاكها واقعيّا، حتّى تتبين للناظرين فيها كنوزها من الآداب والمعارف، وما يلابسهما من تموّجات التاريخ، وتطوّرات الحضارة وتساؤلات الفكر الخلاق.
إذّاك تستنير عقول الناشئة من أبناء المهاجرين وأحفادهم الفرنسيين، ما يعينهم على التّصالح مع ثقافتهم وثقافة شكسبير وموليير في آن؛ وذاك درب ملكيّ لكسر هالات الأساطير، وفتح آفاق التّفكير حرّا طليقا إلاّ من جمال الكلم الجامع.
أستاذ محاضر بجامعة لوران – باريس