وضاح فارس.. لا رثاء للعراقي الذي أحبّ بيروت وحبّب أهلها فيها

وضاح فارس ليس كأي من أبناء جيله العراقيين. أولا لأنّه ليس عراقيا تماما (أمّه سورية) وثانيا لأنّه لم يعش في العراق (كانت بيروت مدينته الأثيرة)، وأخيرا فقد غادر حدود موهبته الفنية التي يمكنها أن تجلب إليه شعورا بالغرور ليكون صاحب مشروع، يسلط من خلاله الضوء على مواهب الآخرين. والعراقيون نادرا ما يفعلون ذلك.
غير أن وضاح فارس كان عراقيا بطريقة مخاتلة. طريقة يغلب عليها الوفاء والشكر والامتنان. فحين افتتح قاعته “كونتاك” في ستينيات القرن الماضي ببيروت، فتح ذراعيه لاستقبال أعمال فناني جيله الذين كانوا يومها مغمورين، لم يسمع بهم أحد. عراقية فارس تفجرت في مغامرته تلك. أما حين استقرّ به الحال في باريس بعد جنون الحرب الأهلية وافتتح صالة فنية حملت اسمه، فإنّه صبّ كل اهتمامه على استضافة أعمال فنية من العراق ولبنان.
المدينة هي بيروت
لزمن طويل أخفى فارس شخصيته الحقيقية بثياب رجل الأعمال، جامع الأعمال الفنية وتاجرها والمروج لها. لقد استهوته مهنة أن يكون صانع أحداث ومنظم علاقات. قال لي قبل سنوات حين عرّفني بصاحب متحف في بيروت “هذه مهنتي”. لم يخف اعتدياده سخريته من شعوره بأن الحياة قد تكون ركنته جانبا، بعد أن عاش زمنا طويلا في قلبها. ليس لأنّه عمل في مؤسسات إعلامية وثقافية عريقة مثل صحيفة “النهار”، ولا لأنّه ارتبط بصداقات عظيمة مع أدباء ومفكرين وفنانين كبار مثل غسان تويني وأنسي الحاج وشوقي أبوشقرا وعارف الريس والقائمة تطول، بل لأنّه قبض على بيروت وهي مدينته المثالية في أعمق لحظات تجلّيها الجمالي واستطاع أن ينقلها من الواقع إلى الصور التي كانت مسرحا لخياله الفذ.
لا يمكنك لكثرة ما التقط فارس من صور، كلها مشوقة وحيوية وعميقة الدلالة، أن تتابع ما يعرضه عليك، بالرغم من أنّك ستشعر بالأسف لأنّك لم تتلق الدرس كاملا. كل لقاء بوضاح فارس كان بالنسبة إلي درسا. فالرجل الذي عمل مصمما صحافيا ورسام ملصقات حرص على أن لا يحترف التصوير بالرغم من أنّه كان في إمكانه أن يجني ثروة ضخمة من بيع الصور التي التقطها، وهي تمثل التاريخ الثقافي للمدينة. حين يقول وضاح “المدينة” فإنه يقصد بيروت. فلا مدينة في العالم سواها.
ساحرة بيروت ومحظوظة في الوقت نفسه. ساحرة لأنّها من المدن التي تهب جمالا فريدا من نوعه، ومحظوظة بوفاء كل من يتمتع بذلك الجمال. ولقد حُظيت بفرصة صداقة إثنين من كبار محبيها، الرسام أمين الباشا (1932 ــ 2019) وصديقه وضاح فارس الذي غادرنا قبل أيام (ولد عام 1940). لقد سبقهما الكثيرون إلى ذلك التمرين العاطفي. بيروت أحبّها الكثيرون وكانت عميقة في إلهامها.
“بيروت مدينة من نسيج رغبات العالم”، كان ذلك هو عنوان المعرض الذي أقامه صالح بركات لجزء من أرشيف وضاح فارس الفوتوغرافي عام 2017. المعرض الذي استغرق الإعداد له سنوات لم يكن إلا مختارات، من خلالها ألقى زواره نظرة على مدينة لم تعد موجودة.
إن كان وضاح فارس مولعا بالوجوه، شغوفا بإظهار ملامحها التعبيرية، فإنّه في الوقت نفسه حاول أن يؤرخ لحياته العاطفية التي خلقت معنى للمفردات اليومية التي تتألف منها الجملة الطويلة التي تم اختزالها فصارت “بيروت”. التقط وضاح صورا لبيروت، شوارعها وبيوتها وأزقتها وأسواقها ومقاهيها وكان يسعى إلى النظر إلى وجهه في مرآتها. هل كان يود أن يرسمها كما لو أنّها تخرج لتوها من البحر كما فعل صديقه أمين الباشا؟
الثقة بالفن
لم ألتق في حياتي رجلا يملك الرغبة في أن يفتح الطرق أمام الآخرين مثل وضاح فارس. وكان كريما وهو يضع تجربته كلّها على الطاولة من غير خوف. لم يكن يخفي شيئا. لم تكن “الكلمات المتقاطعة” لعبته. كان يقول الجملة كاملة من غير ثغرات. عاش عصره كما لو أنّه يختصر كل العصور في عاطفة أخوية ليس من اليسير الدخول إلى خرائطها بالنسبة للكثيرين.
كان فارس في كل ما يفعله صاحب مكيدة، هدفها الحب. أحبّ بيروت وحبّبها لمَن يعيشون فيها من غير أن يهتدوا إلى الممرات التي تقود إلى جمالها.
ما أعجبني في وضاح فارس حين التقيته وكان كل شيء من حوله يدعو إلى الإحباط واليأس، أنّه لم يكن ركاما من الذكريات. كان استمتاعه بالحياة أكبر من شعوره بأن بيروت قد غادرت فتنتها. لم يكن يود أن يكون مصور الماضي. كانت ثقته بالفن تعينه على العيش.