وسائل الإعلام غير قادرة على تجاهل دعوات المساءلة في لبنان

تفرض الأزمات المتتالية في لبنان على وسائل الإعلام أن تذهب أبعد من التغطية العادية للأحداث للتعمق في العيوب المنهجية للسياسة اللبنانية، وتطور صحافة المساءلة لاسيما أنها في صلب الانهيار.
بيروت - يعيش الإعلام اللبناني على وقع الأزمات المتتالية في البلاد، وتطور احتياجات الجمهور وتزايد الغضب الشعبي بعد مرور عام على انفجار مرفأ بيروت ثم انفجار صهريج الوقود فجر الأحد، حيث باتت صحافة المساءلة أولوية للمؤسسات الإخبارية التي تريد كسب ثقة الجمهور.
وبرز التحوّل نحو التقارير الاستقصائية بشكل ملحوظ، لدى العديد من الصحافيين في لبنان، لكن صعوبة الوصول إلى المعلومات، تؤثر بشكل كبير على قدرة الصحافة بأن تحاسب وتكشف الفساد، وتتحقق من المعلومات. فما زالت الإدارات العامة لا تقوم بالنشر التلقائي للمعلومات، كما أنها لا تتجاوب مع طلبات المعلومات خاصة بالنسبة إلى العقود والصفقات التي تجريها.
وتقول فاطمة بهجة مديرة المبادرات الجديدة في المركز الدولي للصحافيين، في تقرير نشرته شبكة الصحافيين الدوليين، إن هناك مساحات إعلامية تنبض بالنشاط، في لبنان لكنّ ثقافة المساءلة ليست منتشرة وفعّالة كما يجب، كذلك فإنّ سياسة فقدان الذاكرة الجماعية التي وُضعت في نهاية الحرب الأهلية منحت الجناة عفوًا عما ارتكبوه ما جعل من أمراء الحرب، سياسيين لا يزال العديد منهم في السلطة اليوم.
غير أنّ المؤسسات الإخبارية لم تعد قادرة على تجاهل الدعوات للمساءلة في ظل سوء الأوضاع الراهنة فقد اضطرّت المؤسسات الإعلاميّة التقليدية، التي تملك غالبيتها أحزاب سياسية قوية وقادتها أو منتسبون إليها، إلى تغيير أولوياتها في إعداد التقارير.
ويرى أيمن مهنا المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير، وهي منظمة غير حكومية تُعنى بالدفاع عن حرية التعبير ومقرها بيروت، أنّ “وضع السياسيين في مقدمة التغطيات الإخبارية بدلاً من القضايا التي تهم المواطنين لم يعد مقبولاً”.
ويذهب الصحافيون الذين يعملون في وسائل الإعلام التقليدية، مثل قناة “الجديد” و”أم.تي.في”، إلى ما هو أبعد من التغطية العادية للأحداث ويتعمّقون في العيوب المنهجية للسياسة اللبنانية.
وتحدّث مهنا عن الحرائق التي اندلعت في الغابات الواقعة في شمال لبنان مؤخرًا، موضحًا أنّ التحقيقات التي أجرتها قناة “أم.تي.في” قبل اندلاع الحرائق نبّهت من أنّ إدارة الإطفاء غير مجهزة بشكل كافٍ للتعامل مع مثل هذه الكارثة.
ومن غير الواضح ما إذا كان هذا الاتجاه سيستمر، إذ لا يكاد يمرّ أسبوع دون أن يواجه صحافيون دعاوى قضائية بسبب أعمالهم، لعرقلة عملهم ومنعهم من إجراء التحقيقات والأبحاث المطوّلة، كذلك الأمر بالنسبة إلى طلب المعلومات عن المصادر. وتتعرض الصحافة الاستقصائية في لبنان إلى الكثير من العوائق، أبرزها زيادة الدعاوى القضائية التي تُقام ضد الصحافيين، وهي طريقة شائعة تنتهجها السلطات منذ الاحتجاجات التي انطلقت في لبنان منذ أكتوبر 2019.
وأشارت مديرة البرامج في مؤسسة “مهارات” غير الحكومية التي تدعم حرية التعبير ليال بهنام إلى أنّ الطريق لا يزال صعبًا أمام الصحافيين الاستقصائيين، وقالت “على الرغم من تركيز الكثير من الصحافيين على المساءلة، إلا أنّ البيئة القانونية والمهنية لا تساعد كثيرًا في إعداد هذا النوع من التقارير، حيث لا يستطيع الصحافيون الوصول إلى المعلومات، وعلى الرغم من وجود بعض القوانين التي يمكن أن تساعدهم، غير أنها لا تُنفذ”.
وخلصت أبحاث أجرتها مؤسسة “مهارات” إلى أنّ وسائل الإعلام البديلة تحظى بشعبية لاسيما بين الشباب الذين يشعر الكثير منهم بالإحباط من الروايات التي تُنشر في وسائل الإعلام الرئيسية والتي تميل إلى الخطوط الطائفية والحزبية. كذلك فإنّ الصحافة البديلة تسهم في تمثيل الجنسين وتنويع الأخبار بشكل أكبر من وسائل الإعلام الرئيسية.
وبحسب بهنام، فإنّ وسائل الإعلام البديلة ستدفع بالمؤسسات التقليدية لتغيير أجنداتها، وذلك لأنّها تجذب الشباب المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الأمثلة على ذلك، التحقيق في الهبة التي قدّمتها سريلانكا للبنان بعد الانفجار، والتي كانت عبارة عن 3685 طنًا من الشاي.
ولفتت بهنام إلى أنّ المواطنين كانوا يسألون عن الشاي على تويتر، وعندما ازداد الحديث بهذا الموضوع على وسائل التواصل الاجتماعي، اندفعت المؤسسات الإعلامية الرئيسية إلى تغطية هذه القضية.
ويشهد الإعلام في لبنان أزمة مالية تاريخية، تترافق مع الأزمة التي يعاني منها لبنان، والتي صنّفها البنك الدولي من بين أسوأ الأزمات التي شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر وذلك مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل جنوني.
وقد أجبرت هذه الأزمة المؤسسات الإخبارية إلى القيام بتقليص العمل وتقليل عدد الموظفين، كذلك فقد اعتمدت غرف الأخبار وصحافيون، ممّن تأثروا بالانفجار على المساعدات والمنح الدولية من أجل التمكّن من مواصلة العمل.
وسلّط رئيس تحرير صحيفة “دايلي ستار” نديم لادقي الضوء على التحدي الذي زاد حدّة الأزمة والمتمثّل بتقلص عائدات الإعلانات على مستوى العالم، لاسيما في أعقاب تفشي جائحة كوفيد – 19، وقال “للأسف، وصلت الأمور إلى مرحلة حيث ستغلق فيها بعض المؤسسات الرائدة”.
وتبرز مشكلة أخرى وهي انقطاع التيار الكهربائي والنقص في المحروقات والتي تؤثّر على قدرة الصحافيين على إعداد تقارير والتحرك على الأرض.
ويعدّ الوصول إلى التمويل أمرًا صعبًا بالنسبة إلى الكثير من المؤسسات الصحافية البديلة، التي ترفض الكثير منها اللجوء إلى مصادر الدخل التقليدية المرتبطة بالأعمال التابعة لسياسيين.
ويرى مهنا أنّه يوجد جانب إبجابي في التحديات التي تفرضها الأزمة الاقتصادية على وسائل الإعلام الرئيسية، موضحًا الإفتقار إلى التمويل السياسي والإعلانات في ظل اقتصاد منهار، هو ما يجبر هذه المؤسسات على إعادة تقييم نماذج التمويل الحالية والتحول نحو “الصحافة المسؤولة والمساءلة” التي يطالب بها الجمهور اللبناني.
وأوضح أنّ هذه أيضًا لحظة انتقالية رئيسية للمانحين الدوليين وللمنظمات التي تُعنى بالدعم الإعلامي مثل مؤسسة سمير قصير، مشيرًا إلى أنّ الخطوة التالية تكمن بالاستفادة من منح الدعم والهبات المتوفّرة بشكل مؤقت من أجل الاستثمار في الصحافة الاستقصائية والمساءلة.
ولفت إلى أنّه “حتى عندما تنتهي هذه المنح، سنكون قد أنشأنا طاقمًا من الصحافيين المجهزين بالأدوات المناسبة”.
من جهتها، أوضحت لارا بيطار، المحررة المؤسسة لـ”مصدر عام” أنّ الاستدامة المالية تبقى مصدر قلق رئيسي، كما أنّ المؤسسات المستقلة تحتاج إلى الكثير من أنواع الدعم الأخرى.
ولا يغطي الصحافيون اللبنانيون فقط تداعيات الفقر وتأثيره على المجتمع اللبناني الذي يغرق 70 في المئة في هذه الأزمة المالية، بل يواجهون هذه الأزمة أيضًا، ما دفع أعدادًا كبيرة منهم إلى الهجرة إلى خارج لبنان، في وقت انتقل بعضهم للعمل مع مؤسسات دولية تدفع الرواتب بالعملة الأجنبية.
ويرى العاملون في القطاع أن الصحافة الجيّدة هي الضحية، ففي حال لم تستطع المؤسسات الإعلامية جذب الصحافيين وتحسين ظروف العمل، فإن جودة المحتوى ستتراجع.