"وديعة".. رواية بوليفونية تتصدَّى لمافيا تجارة الأعضاء

تدخل الرواية مختلف المواضيع الشائكة بسلاسة، ولكن في ما يكتب من الروايات العربية هنالك العديد من المواضيع غير المطروحة بشكل كاف رغم أهميتها، ومن بينها المواضيع الطبية التي تتناول حالات من الأمراض وما يواجهه المرضى، في ما يعتبر من أبرز الأزمات الوجودية التي يمكن النبش فيها كما فعلت الكاتبة والطبيبة المصرية جمال حسَّان.
تعالج رواية “وديعة” للكاتبة الدكتورة جمال حسَّان (استشارية الطب النفسي بالمملكة المتحدة) قضية طبية ومجتمعية في منتهى الأهمية، هي قضية بيع الأعضاء البشرية والتجارة فيها، من خلال إحدى الشبكات المنتشرة في عدد من المستشفيات والعيادات ومعامل التحليل داخل مصر.
كما تعالج الرواية قضية التنمر في المدارس المصرية من خلال بعض التلاميذ الذين دائما ما يتعرضون لزميلهم أمير بسلوكه الانطوائي بعض الشيء، ويتدخل زميله أنطوان دائما للدفاع عنه، وإبعاد هؤلاء الزملاء العابثين.
فضلا عن قضايا مجتمعية أخرى تدخل في صميم النص الروائي، ولكنها تأتي تالية للقضية الكبرى والأهم وهي بيع الأعضاء البشرية، وخاصة الكُلى، والتي تجسدها تلك العبارة السردية “على الطاولة الأولى وقفت زيزي تساعد جرَّاح الكلى د. سامي دراج وهو يستخرج كلية الولد المرعوب، ثم تناولها إلى جرَّاح الأوعية الدموية على الطاولة الثانية الذي يخيطها في بطن المريض الثاني تساعده ممرضةٌ شابة”.
تنوع التقنيات والشخصيات
الرواية تحولت إلى كتلة من الحوار السريع المعبر على حساب السرد ما يجعل من السهل تحويلها إلى عمل مرئي
لعل مسألة إنهاء حياة إنسان معلَّق بين الأنابيب والمحاليل والتنفس الاصطناعي والدعاء والرجاء، وعدم الاستجابة للعلاج الطبي، وتوقف جميع أعضائه عن العمل بشكل طبيعي، تسهم هي الأخرى في إبراز أهمية هذا العمل الكبير بتعدد شخصياته وتنوعها وتدرجها المجتمعي وتنوع لغته ما بين الفصحى والعامية، وتعدد مستوى العامية فيه، وعدد صفحاته التي بلغت 550 صفحة، ما يدلنا على ثرائه وتفرُّد موضوعه الإنساني، وقدرة الكاتبة على الإلمام بأبعاده وزواياه من الاتجاهات كافة.
إن الرواية في طرحها الفكري تتناول قضيةً دينيةً ومجتمعية وثقافية بالغة الأهمية حول إنهاء حياة ذلك العالق بين الحياة الاصطناعية والموت الرحيم. ومَنْ يجرؤ على اتخاذ هذا القرار، بل من هو صاحب القرار، هل الزوج أم الأب أم الأم أم الأبناء أم الأشقاء؟ ما دام صاحب القرار الأصلي في غيبة عن الدنيا ولا يدري شيئا عن نفسه وحياته.
وقد سبق لعدد من الكتَّاب معالجة موضوع المرض واقتحام العيادات والمستشفيات وإجراء العمليات وما يصاحبها من طقوس وإجراءات ومخاوف وآلام ودعوات بالشفاء، وقياس ضغط الدم والسكر، والتردد على الصيدليات لشراء الأدوية وصرف الروشتات أو الوصفات العلاجية، نذكر من هذه الروايات روايتين تسجيليتين هما: “الحياة ثانية” و”مقصدي البوح لا الشكوى” لمحمد جبريل، إنه يؤرخ للوجع والألم الذي ألمَّ به عبر محنة صحية هائلة، وانتكاسة وآلام باح لنا بها – خاصة في روايته الثانية – بعد إجراء عملية في أسفل الظهر أو في أسفل العمود الفقري، لم تُكلل بالنجاح لأنها كانت تريد إجراءً ومتابعة معينة وتثبيت العظام بعدها.
أما الرواية الثانية فهي “البرتقالة والعقارب” للدكتور طلعت شاهين، وهو يتناول الموضوع من زاوية أخرى حيث الورم المخِّي الذي كان في حجم البرتقالة، فكان من الضرورة القصوى شق الدماغ لإخراج هذا الورم الخبيث.
ويتحدث الكاتبان في مثل هاتين الروايتين عن تجربة شخصية مرَّا بها، وأرادا تسجيلَها وكتابتَها، لذا لا نراهما يتعرضان لمافيا نقل الأعضاء داخل المستشفيات، ولا نجدهما يلجآن إلى تقنيات روائية متعددة مثل التي لجأت إليها صاحبة “وديعة”. إن روايات جبريل وشاهين أقرب إلى رواية “السيرة الذاتية”، بينما “وديعة” أقرب إلى السيرة الغيرية، فالمؤلفة تتناول سيرة المهندسة وديعة كسيرة روائية مشوقة.
تنوعت التقنيات والشخصيات في الزمن الروائي الثابت، حيث لا نقلات زمانية تذكر سوى العودة إلى الوراء (فلاش باك) عندما يتذكر بطل الرواية سنوات دراسته في لندن، وعندما تعود وديعة إلى تذكّر حياتها في الإسكندرية من خلال تقنية الحلم، وما أكثر أحلام وديعة في هذه الرواية منذ صفحاتها الأولى، وأرى أن هذه الأحلام بديلا عن الحضور الفعلي في الحياة لوديعة التي هي على وشك مغادرة الحياة، فهذه الأحلام هي التي تؤكد حضور ووجود البطلة في ثنايا العمل الروائي، إنه “حضورٌ حُلميٌّ” إن صح التعبير.
يقول الراوي العليم، أو الراوية العليمة، أو الذات الكاتبة “حلمتْ بأنها في الإسكندرية ترقب أمواج البحر من خلف نافذتها بأحد الطوابق العالية في بناية قديمة قرب الفنار. صوت هدير المياه يضرب سور الكورنيش مزعج ورتيب لكنه لا يخيف. أفواج متلاحقة من الصغار وذويهم تجري وتحتضن زَبَد الأمواج العالية. لون المياه بنيٌّ متسخ والسماء نصف غائمة.. الخ”.
كما لاحظنا أنه لا نقلات مكانية كثيرة بالرواية، حيث معظم الأحداث تدور في القاهرة، والقليل منها يدور في الإسكندرية ولندن. اللهم إلا النقلات المكانية الكثيرة داخل مدينة القاهرة نفسها، باعتبارها مدينة مترامية الأطراف، ومتعددة المستويات والطبقات.
تعدد الأصوات
على الرغم من وجود البطلة الرئيسية للعمل المهندسة “وديعة” في المستشفى الخاص، ممددةً على السرير المعدني، فإن جسدها يتنقل في أكثر من حجرة، وذلك بعد إجراء عملية جراحية لإزالة ورم ليفي في رحمها أو فرجها، تنزف كثيرا على إثرها، لوجود خطأ في العملية تسبَّب في وجود ثقب في الرحم، فهي تتنقل ما بين عنبر المرضى، وغرفة العمليات، وغرفة العناية المركزة، والغرفة رقم 630، ثم العودة إلى العناية المركزة، وهكذا.
إلا أن وجودها الروحي خارج المستشفى كان أكثر تأثيرا وجاذبية وروحانية، وخاصة عندما تظهر كروح طوَّافة لابنها أمير، والرواية في هذا تذكرنا بأفلام مصرية ومسرحيات جسَّدتْ هذا التمظهر مثل مسرحية “حواء الساعة 12” (فؤاد المهندس وشويكار 1968) وفيلم “عفريتة هانم” (فريد الأطرش وسامية جمال 1949) وبعض أفلام إسماعيل ياسين، وغيرها من الأعمال. وهذا يتواءم مع البنية الفنية التي نجدها تزين هذا العمل مثل أغنيات محمد عبدالوهاب، وليلى مراد، والموال الشعبي: هيلا هيلا صلي ع النبي، وغيرها من الأغنيات أو المقاطع الغنائية.
إن روح وديعة المحلِّقة ترى الجسد الممدَّد على السرير المعدني، فتشعر برغبة ملحة أن تقترب وتتعرف على المرأة النائمة، فتهبط من مكانها وتلمس الذراع المفرودة بها أنبوبة رفيعة تتصل بكيس بلاستيكي معلَّق في حامل جانبي. تقترب الروح الشفَّافة وتبتعد يخامرها شعور بأن الأمر برمته أشبه بالحلم وهي بين النوم واليقظة وكأنها أمام شاشة تلفزيون أو سينما. وتتساءل: أين رأت تلك النائمة من قبل؟
إنها حرة طليقة تسير على الأرض وخفيفة تطير في الهواء كريشة دون أي مشقة أو تفكير حين تريد. لتثبت لنفسها تلك الحقيقة وتتأكد منها، استدارت وحلقت ثانية نحو سقف الغرفة وكأنما يدا خفية جذبتها لأعلى.
إضافة إلى التقنيات الروائية السابقة، تتمتع الرواية بتقنية تعدد الأصوات، فهي رواية صوتية أو بوليفونية، وهي تقنية لم تظهر إلا مع أعمال دوستويفسكي كما يشير ميخائيل باختين، واستخدمها من الكتاب العرب نجيب محفوظ في “ميرامار” و”الكرنك”، وهي تعتمد على تعدد المواقف الفكرية، واختلاف الرؤى الأيدولوجية.
وفي رواية “وديعة” سنجد عددًا من الشخصيات يتناولون الحدث الواحد بأكثر من رؤية، كلٌّ حسب موقعه، وثقافته، وفهمه للحدث من وجهة نظره.
وعلى مدار الفصول الـ82، سنجد فصولا مخصصة للأطباء، وفصولا للمهندسة وديعة (التي سميت الرواية باسمها، فكانت هي البطلة المركزية للعمل) وفصولا للزوج أستاذ الجامعة الدكتور مراد، وفصولا مخصصة للابن أمير الذي يدلِّل أمه ويطلق عليها اسم “ديدي” ما يدل على العلاقة القوية بين الأم وابنها الوحيد، وفصولا للممرضة زيزي التي يبدأ ظهورها في الفصل التاسع، وهي تعد الشخصية المضادة لوديعة، أو البطلة المضادة لها. “والبطل المضاد يسعى لتأسيس قوى معاكسة تتبنى اتجاهات مضادة لمنظومة القيم السائدة”. إن زيزي تدير إمبراطورية الشر المضادة للقيم السائدة لدى أغلب شخصيات العمل، وعلى رأسهم وديعة. وتقود إمبراطورية تجارة الأعضاء، وتتخفَّى وراء أنوثتها الطاغية وجمالها المبهر، وتجندهما في سبيل تحقيق أطماعها وحلمها الكبير في الثراء الفاحش.
كما سنجد فصولا للبواب الصعيدي بحر، بأزماته المتعددة ما بين قريته ومدينة القاهرة أو الندَّاهة، وهو في ذلك يذكرنا بفيلمي “النداهة” (ماجدة وشكري سرحان 1975) و”البيه البواب” (أحمد زكي وصفية العمري 1987) رغم أن بحرًا لم يصبح (بيهًا) أو من البهوات في الرواية، مثل أحمد زكي في الفيلم، فهو يُقتل في النهاية بعد أن سرقوا كليته، وألقوا جثته في عمق النيل، في الوقت الذي تحتفل صابحة زوجته وأفراد أسرته في الصعيد بقرب عودته ليحقق لهم أحلامَهم وآمالَهم ويزوِّج بناته، فتنطلق الزغاريد في وضح النهار بينما الجثة تهبط إلى ظلام الأعماق. “قبل انبلاج الفجر، طوَّحَ رجلان بجسد بحر النحيل في ماء النهر عند بقعة مهجورة مكمَّم الفم موثوق الأطراف”.
ولعل العمارة السكنية التي يعمل بها بحر، والتي تجمع عددًا كبيرًا من الشقق، وكل شقة لها حكايتها، بما فيها شقة المهندسة وديعة والدكتور مراد، تشبه العمارة التي في فيلم “البيه البواب”، فهي مجلَى العالم الروائي للذات الكاتبة، وتجمع بين عدد من الشخصيات المؤثرة التي لم تكن عبئًا على العمل، وإنما هي شخصيات كاشفة لعمق المجتمع، وتشظِّي أفراده وعائلاته، ومنها عائلة نرجس التي صورتها الذات الكاتبة وكأنها على شفا الجنون بعد رحيل زوجها والعيش بمفردها رغم وجود ابنتها كاميليا المتزوجة والتي تعيش بعيدًا عنها، وتتمزق الابنة بين متطلبات أسرتها، ورعاية والدتها، وتفكر في إيداع الوالدة دار المسنين مقابل دفع ثمن الرعاية والعناية الفائقة. ولكن الأم ترفض ذلك، وتلجأ إلى جولات في الشوارع بطريقة غير مهذبة، فتستعدي الآخرين عليها، فيتهمونها بالجنون.
والمتتبع للعلاقة بين وديعة وجيرانها وزملائها في العمل، وعلاقتها بأفراد أسرتها في القاهرة، وعائلتها في الإسكندرية، وحبها للحياة، وعشقها للطبيعة والبحر، يكتشف أننا أمام إنسانة في غاية الروعة والحنان وتتمتع بمجموعة من الأحاسيس والمشاعر الجياشة، وصاحبة واجبات اجتماعية مع جيرانها وزملائها في العمل، وتحاول التعديل من سلوك زوجها ليعمل على تأدية واجباته الاجتماعية سواء داخل المنزل أو خارجه.
ومن هنا تأتي تلك المساحة وينمو ذلك التعاطف القوي بين القارئ وتلك الشخصية الأقرب إلى المثالية، فنحزن ونحن نقرأ تاريخ مرضها وعذابها بين المستشفيات، ومحاولة الاعتداء على كليتها رغم أنها في حالة اللاوعي وعدم الإدراك، ونحتار مع زوجها د. مراد، هل نوافق على نزع الأنابيب والخراطيم والمحاليل التي تُبقيها على قيد الحياة ولو لحين، ونوافق على إطلاق رصاصة الرحمة، أم نُبقي على الوضع الحالي حتى يأتيها مَلك الموت في موعده المحتوم؟
اللغة والحوار
أما عن اللغة التي كُتبت بها تلك الرواية، فهي كما سبق القول تجمع بين الفصحى والعامية، واستخدمت الذات الكاتبة أو الراوية الفصحى للسرد وإن شابته بعض العامية، واستخدمت العامية الصرف للحوار، وقد غلبت مساحة الحوار بين الشخصيات على مساحة السرد، لذا أتخمت الرواية بالعامية المصرية ذات المستويات المتعددة والمتباينة، فسنجد عامية القاهرة المهذَّبة على لسان الشخصيات الرئيسية مثل وديعة وزوجها والأطباء، وسنجد عامية الصعيد على لسان البواب بحر، وقلب القاف جيمًا، وسنجد عامية الشباب على لسان أمير وأنطوان وزملائهما، وهناك عبارات في تلك العامية الأخيرة لم أفهمها حقيقةً، فما بالُنا بقرَّاء الرواية خارج مصر.
وهناك عامية العاملين بالمقاهي وعامية الأميين المستقاة من ألفاظ الشارع المصري اليومية المتداولة على لسان زلطة وقطاطة وميمو ومحروس وحودة.. الخ، وعامية الخليج العربي، فضلا عن وجود العديد من المصطلحات الطبية التي كان بعضها يحتاج إلى ترجمة أو تفسير أو تبسيط ليفهمه القارئ غير المتخصص في الطب مثلي.
وإذا جاز لنا أن نعين بطلا تقنيا للرواية، فإنني أختار تقنية الحوار التي برعت فيها الذات الكاتبة، فتحولت الرواية إلى كتلة من الحوار السريع المعبر المدهش الواصف المفجر للأسئلة والشكوك، على حساب السرد قليل الحيلة، ومن هنا فإن من السهولة بمكان تحويل الرواية إلى عمل مرئي، ينقصه فقط سيناريست جيد يقوم بتحويل الفصول إلى مشاهد سينمائية، دون التدخل في الحوار البطل إلا بما يوافق التقنيات السينمائية.
في طرحها الفكري تتناول الرواية قضية جدلية دينية ومجتمعية وثقافية بالغة الأهمية هي الموت الرحيم
ومما يحمد للرواية، هو ذلك التماسك الاجتماعي داخل الأسرة الواحدة، وأعني أسرة وديعة، وأسرة صديقتها إيزيس، والتزام الشابين الصغيرين أمير وأنطوان بتعاليم الأب والأم، فلا يفعلان شيئا إلا بموافقة الأم أو الأب، بعد إقناع واقتناع. كما أعجبتني الصداقة القوية بين أمير وأنطوان، فلا تعصب ولا تحيز، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالطقوس الدينية، بل على العكس فإن أنطوان قد يفسر بعض ما غمض على أمير في شؤون الدين الإسلامي، ويحثه على اللجوء إلى الله والدعاء من أجل شفاء والدته، ويدعو لها أيضا أنطوان بطريقته التي تعلمها في دينه المسيحي. ومن هنا فإن الرواية تحافظ على بعض القيم الدينية والإنسانية بقدر ما تسمح به من تقنيات فنية مناسبة.
وتنتهي الرواية نهاية مفتوحة، وهذه النهاية هي الأنسب للموضوع المطروح، فلا تزال عصابات ومافيا تجار الأعضاء البشرية ترتع وتسرق الأعضاء وتنقلها إلى من يحتاجُها مقابل مبالغ طائلة، ولا تزال زيزي طليقة تفعل ما تريد وتتفق مع من يشاء الدخول إلى هذا العالم في سرية تامة، ولا تزال وديعة بين الحياة والموت، فلم يحسم شأنها، وإن كانت أقرب إلى عالم الموت بتوالي الأيام.
يذكر أن هناك ثلاث روايات صدرت للكاتبة من قبل هي: “للحقيقة ألف وجه” 1999، و”بنات… بنات” 2000، و”في أعماق الرجل البهي” 2003. بالإضافة إلى أربع مجموعات قصصية: “عصف اليقين” 1996. و”شهريار ينتظر” 1998. و”سندس والملك” 2009. و”ولي بين الضلوع دمٌ ولحم” 2014.