وداعا إليزابيث.. وداعا حارسة معبد الديمقراطية

كنت أظن أن الكتابة عن رحيل الملكة إليزابيث الثانية معزيا أمر سهل، فقد عشت معظم سنوات حياتي على مقربة من القصر الذي تقطنه وسط لندن، وتابعت أخبارها، منذ أن اختار والدي المغفور له الحاج أحمد الصالحين الهوني بريطانيا ليطلق منها صحيفة “العرب”، لتكون بذلك أول صحيفة عربية تصدر من لندن قبل 45 عاما. ومنذ ذلك الوقت (عام 1977) تابعت حرص مؤسس “العرب” على كتابة افتتاحية سنوية يهنئ فيها الملكة بعيد ميلادها. وهو طقس لم يتوقف إلا برحيله رحمه الله.
لا بد أن أقرّ بأن احتفائي بنظام الحكم الملكي هو أمر اكتسبته بالوراثة، ولديّ أكثر من سبب وأكثر من دافع لهذا الولاء، الذي عمقته التجارب الفاشلة لأنظمة “جمهورية” عربية أذاقت شعوبها المرارة والبؤس، بينما دول عربية أخرى تمسكت بالملكية استطاعت رغم الظروف القاسية والأزمات التي مرّت بها أن تقود شعوبها إلى برّ الأمان.
إعجابي بالملكة إليزابيث بدأ عندما كنت طالبا في المدرسة البريطانية في طرابلس. كانت صور الملكة إليزابيث موزعة في أروقة المدرسة وقاعات الدرس جنبا إلى جنب مع صور المغفور له الملك إدريس السنوسي.
وكانت ليبيا حينها مملكة فتية حديثة الاستقلال، كل شيء فيها يدار وفق الطريقة البريطانية، بشفافية مطلقة بعيدا عن الفساد، واستطاعت خلال فترة قصيرة أن تحقق نجاحات ملحوظة على مستوى البنية التحتية والتنمية.
لا أعلم إن كان من قبيل الصدفة فقط أن تكون ليبيا أول دولة أجنبية تزورها إليزابيث بعد أن توجت بلقب ملكة. لم تكن زيارة رسمية، بل في طريق عودتها إلى لندن من كينيا حيث كانت تمضي إجازتها عندما توفي والدها جورج السادس في فبراير 1952، توقفت طائرتها في مطار طبرق للتزود بالوقود، وكان في استقبالها مسؤولون محليون وضباط بريطانيون بصفتها ملكة جديدة للمملكة المتحدة.
أيّ تعزية ستكتب بعد هذا الفيض من التعازي التي أرسلها زعماء العالم معزين برحيل الملكة إليزابيث ستبدو شاحبة وباهته
وفي عام 1954 تعود الملكة إليزابيث الثانية لتزور ليبيا في زيارة رسمية. وخلال السنوات القليلة التالية توقفت عدة مرات في مطاري طرابلس وطبرق في طريقها إلى وجهات أخرى في أفريقيا، وخلال الساعات القليلة التي تمضيها، بينما طائرتها تزود بالوقود، كانت تلتقي بمسؤولين محليين.
لم تدم هذه المرحلة طويلا، وإن كان أثرها كبيرا في نفسي، حملته معي في كل مكان حللت به.
في عام 1969 حدث الانقلاب الذي أطاح بالحكم الملكي قبل أن تكتمل ثماره. ولا بد أن أذكر هنا أن الانقلاب وجد تأييدا شعبيا داخل ليبيا، وكان ذلك أسوة بدول عربية ثانية أطاحت بالأنظمة الملكية معلنة إقامة جمهوريات.
غادرت ليبيا برفقة أسرتي، بعد أن أمضى والدي ثلاث سنوات في سجن سياسي، لينتهي بنا المطاف في لندن على بعد خطوات من قصر الملكة.
واليوم بعد 45 عاما تعود الذكريات مثل شريط سينمائي يمر أمام عينيّ، إثر الإعلان يوم الخميس الماضي عن وفاة الملكة إليزابيث عن عمر يناهز 96 عاما، في قصرها في بالمورال حتى تجمعت حشود كبيرة أمام قصر باكنغهام وقد خيم عليها الصمت وعلت الوجوه مسحة من الحزن لا يمكن إخفاؤها.
الذين تجمعوا أمام القصر الملكي معزين خليط غير متجانس من البشر، سواء بالميول السياسية أو الانتماء الطبقي؛ يسار ويمين، فقراء وأثرياء من أعمار وجنسيات مختلفة.
منذ توليها العرش خلفا لوالدها الملك جورج السادس عام 1952 – وكانت حينها في سن الخامسة والعشرين – أصبحت الملكة إليزابيث رمزا للاستقرار عبر أزمات ومحطات مختلفة في تاريخ المملكة المتحدة، عاصرت خلالها رجال سياسة كبار أمثال نهرو وتشرشل وشارل ديغول ومانديلا الذي كان يدعوها “صديقتي”. وخلال حكمها، شهدت بناء جدار برلين، ثم سقوطه، والتقت 12 رئيسا أميركيا. وكانت لدى وفاتها ملكة على 12 مملكة، تمتد من نيوزيلندا إلى البهاما.
آخر الصور التي التقطت للملكة الراحلة كانت قبل يومين من وفاتها لدى تعيينها ليز تراس رئيسة وزراء، هي الخامسة عشرة في عدد رؤساء وزراء بريطانيا الذين عينتهم، ووقفت على مسافة واحدة منهم، لا فرق بين محافظ أو ليبرالي، يساري أو يميني، المعيار الوحيد هو الولاء لبريطانيا ومصالحها.
على مدى سبعين عاما من اعتلائها العرش، كانت إليزابيث الثانية الراعي الأمين للديمقراطية، وكان النظام الملكي الدستوري الذي تمثله جدار أمان تنتهي عنده سلطات رؤساء الوزراء والأحزاب الحاكمة.
هل هناك ما يتوجّب الخوف على نظام ديمقراطي عميق ساهمت الملكة الراحلة في إرسائه خلال سبعة عقود عرفت فترات من الاستقرار وفترات من الاضطرابات ظلت خلالها حارسا أمينا لبوابات معبد الديمقراطية
لهذا السبب، وغيره من الأسباب، استطاعت إليزابيث، حارسة معبد الديمقراطية، أن تكسب حب واحترام البريطانيين وزعماء العالم الذين سارعوا للتعبير عن حزنهم لرحيلها.
حتى المتخاصمون منهم، رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي ورئيس روسيا فلاديمير بوتين، نسيا خلافاتهما للحظات، ليتشاركا التعبير عن حزنهما العميق لسماع نبأ رحيلها.
المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أشادت بـ”الأهمية البارزة” التي كانت تحظى بها الراحلة ورأت أن وفاتها تمثل “نهاية حقبة”.
وأعرب رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا عن أسفه “للخسارة الكبيرة” للمجتمع الدولي وقال “إن رحيل الملكة التي قادت المملكة المتحدة في أوقات مضطربة في العالم، خسارة كبيرة ليس للشعب البريطاني فحسب لكن للمجتمع الدولي أيضا”.
واعتبر رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال أن الراحلة التي كانت تلقب بـ”إليزابيث الصامدة” “لم تقصّر يوما من خلال خدمتها والتزامها في أن تبيّن لنا أهمية القيم الثابتة في عالم معاصر (متغير)”.
وقد يكون رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي الذي قال إن إليزابيث “مثلت المملكة المتحدة والكومنولث بتوازن وحكمة واحترام للمؤسسات والديمقراطية” أكثر المسؤولين السياسيين الذين عبّروا في رسائل العزاء عن الدور الذي لعبته بصمت الملكة إليزابيث الثانية.
أيّ تعزية ستكتب بعد هذا الفيض من التعازي التي أرسلها زعماء العالم معزين برحيل الملكة إليزابيث ستبدو شاحبة وباهته.
منذ ثلاثة أشهر فقط (5/6/2022) احتفل البريطانيون بالعيد البلاتيني للملكة إليزابيث، وعبروا عن مدى تمسكهم بالنظام الملكي الدستوري الضامن للاستقرار. اليوم يتقاسمون الحزن على رحيلها؛ حزن تشوبه عند البعض مخاوف من أن يتعرض النظام الملكي الدستوري إلى نكسات.
لقد اتفق البريطانيون ومعهم 12 دولة أخرى على النظام الذي ساد طيلة 70 عاما اعتلت فيها إليزابيث العرش، اليوم هناك خلاف على اعتلاء ابنها الأكبر تشارلز البالغ 73 عاما العرش عملا ببروتوكول عمره قرون.
ولكن، هل هناك ما يتوجّب الخوف على نظام ديمقراطي عميق ساهمت الملكة الراحلة في إرسائه خلال سبعة عقود عرفت فترات من الاستقرار وفترات من الاضطرابات ظلت خلالها حارسا أمينا لبوابات معبد الديمقراطية.