وثائقي مصري ينبش في علاقة الإنسان بالرموز التاريخية

"رمسيس راح فين؟".. فيلم يسائل التاريخ عبر الغوص في المهمل من التفاصيل.
السبت 2020/11/14
تمثال شاهد على تاريخ مصر

غالبا ما ترتبط الميادين والساحات العامة في معظم الدول وخاصة العربية منها بأسماء ساسة وملوك وفنانين وغيرهم، ومصر واحدة من البلدان التي ارتبطت ساحاتها وميادينها بشخصيات سياسية واقتصادية وحتى فنية. ولكن الأحداث السياسية الهامة القادرة على استبدال الحكومات، قادرة أيضا على استبدال أي اسم أو تمثال إلى ساحة أو ميدان. والفيلم الوثائقي “رمسيس راح فين؟” للمخرج المصري عمرو بيومي واحد من الأفلام التي رصدت رحلة انتقال أشهر تمثال في القاهرة لا يزال مكانه يحتفظ باسمه.

انتهى منذ أيام العرض الجماهيري للفيلم الوثائقي “رمسيس راح فين؟” الذي أنتجته شركة “رحالة” لصاحبها المخرج ناجي إسماعيل، وقام بإخراجه عمرو بيومي. والفيلم الذي عرض في سينما زاوية التي تخصّص برنامجا شهريا لأهم الإنتاجات السينمائية العربية وحتى الأجنبية، سبق وأن حصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والوثائقية في العام 2019، وكان مقررا له أن يجوب ويشارك في مهرجانات سينمائية كثيرة في كل من بودابست وبرلين وزيورخ وساو باولو وبرازيليا وريو دي جانيرو، لولا أن فايروس كورونا قد شلّ حركته.

وميدان رمسيس يعتبر واحدا من أشهر ميادين العاصمة القاهرة، لكنه اليوم من أكثرها ازدحاما وفوضى، وخاصة بعد أن أضيف له العديد من الجسور المنتصبة فوق بعضها البعض، وتحوّل جزء منه إلى محطة لنقل الركاب من وإلى خارج القاهرة.

ويتناول فيلم “رمسيس راح فين؟” في خطه العام، الأثر النفسي والشعبي لرحلة انتقال تمثال الملك رمسيس الثاني في العام 2006 من مكانه في أهم ميدان بوسط القاهرة إلى الجيزة، وصعوبة تلك الرحلة التي كانت أشبه بتحدّ للقائمين عليها، وخاصة بالنسبة إلى الدكتور أحمد محمد حسين والمهندس مصطفى عبدالرؤوف، لكنه في الوقت عينه فيلم يلقي الضوء بشكل انسيابي سلسل وسهل على التفاصيل السياسية التي كانت مصر قد عاشتها منذ ثورة يوليو 1956 حتى اليوم.

عمرو بيومي أضفى على فيلمه نكهة رومانسية، مستثمرا كل ما يمكن لوثائقي استثماره من مواد أرشيفية
عمرو بيومي أضفى على فيلمه نكهة رومانسية، مستثمرا كل ما يمكن لوثائقي استثماره من مواد أرشيفية

فيلم نموذجي

عادة ما يقال إن المواضيع تقرأ من عناوينها، لكن فيلم “رمسيس راح فين؟” لا يقرأ فقط من عنوانه المستوحى من إعلان تلفزيوني سبق للمخرج وأن شاهده في طفولته، بل أيضا من التصميم الإعلاني الذي قدّم من خلاله الفيلم، والذي يبدو فيه وجه الملك رمسيس الثاني مشعّا حزينا شامخا وهو يودّع جيرانه من سكان الأحياء الذين وقفوا لتوديعه، بعد خمسين عاما من الإقامة والتعوّد عليه، وكانت عيونهم ترقب تلك الرحلة التي أصرّ أحمد محمد محسن على أن يجعلها أشبه بموكب وداع.

يقول المخرج “تأملت التمثال على مراحل، وفي كل الأحوال، لكنه دائما كان موجودا هنا، وهذه الليلة أعيش تجربة جديدة، نزهة ليلة صيف مع صديق طفولتي العملاق في شوارع المدينة، وأنا أنتقل من رصيف إلى شرفة إلى سطح ومع شروق الشمس، يعبر موكب تمثال الملك، نهر النيل من البر الشرقي إلى الغربي، في طريقة إلى وادي الأبدية 25 أغسطس 2006”.

صحيح أن عملية نقل التمثال كان قد مضى عليها أكثر من 13 عاما، وكان قد تابعها الملايين من الناس عبر الفضائيات العربية والأجنبية، وأنتجت مؤخرا إحدى القنوات الفضائية العربية فيلما تسجيليا عنها، مستهدفة إبراز الدور الهام وربما الرئيسي لكل من أحمد محمد حسين ومصطفى عبدالرؤوف كنوع من العرفان بالجميل وتقديم الدعم المعنوي الذي يستحقانه.

إلاّ أن فيلم “رمسيس راح فين؟” يعتبر فيلما وثائقيا نموذجيا، يمكن الاستدلال منه وعبره كوسيلة تعليمية لكل من يريد أن يخوض في مجال السينما الوثائقية، ليس فقط لقدرة صاحبه على إعادة تلك اللحظة التي ربما جيل كامل لم ينساها بعد، ونبشه للعواطف تجاه حدث لا يرتبط فقط بمجرد نقل تمثال سبق وأن تعلّق الناس به بصريا وعاطفيا إلى درجة استحق معها وداعا شعبيا، أو وداعا يليق بملك شامخ، بل لقدرته أيضا على اختصار مراحل سياسية وتاريخية كانت قد مرّت على مصر، منذ قرار عبدالناصر وضعه في ميدان بوسط القاهرة وحتى لحظة رحيله عنها.

نقل تمثال رمسيس الثاني يأتي رغبة في تغيير سياسي شامل طال حتى الرموز وأسماء الساحات والميادين وما فوقها

ويبدأ المخرج فيلمه بطريقة السرد الذاتي فيتّخذ دور الراوي، ولكنه ينوّع ما بين السرد الذاتي والموضوعي، فيجعل من نفسه تارة مصدرا للحدث، فيحكي قصة طفولته التي عاشها في منزل بالقرب من ميدان رمسيس حيث كان  ذلك التمثال، أو يجعل من الأرشيف والمواد المصوّرة من قبله برفقة صديقه مجدي يوسف مصدرا، وهو حين يفعل ذلك يقوم بإعادة قراءة الواقع ضمن إطار درامي، مستقطب  من خلاله نوعان من الجمهور، الأول سبق وأن عرف جل تفاصيل الحدث، والثاني ربما سيسمع عنه للمرة الأولى.

لكنه لا يقدّم تلك الرواية بحيادية، بل من منطلق شخصي وعبر وجهة نظر محددة، وهي النقطة الأساسية التي جعلته ينتظر كل تلك السنوات قبل أن يقدم الفيلم، فالظروف التي مرّت بمصر عبر تلك السنوات بما فيها الثورة، كانت تستوجب منه تحديد موقف واضح.

كما يربط الفيلم بشخصه كمواطن مصري، عبر كل مراحل حياته التي عاشها في مجتمع يتسلّط فيه الأب على مجمل القرارات العائلية، ليصبح هو حجر الشطرنج الذي بإمكان الأب تحريكه، بل ونقله بكل بساطة، ليشبه رمسيس الذي رغم عظمته وتعلق الناس به، تم نقله وتحريكه من قبل الحكام والساسة.

تغيير للرموز

وثائقي يتتبّع رحلة انتقال تمثال رمسيس الثاني من القاهرة إلى الجيزة
وثائقي يتتبّع رحلة انتقال تمثال رمسيس الثاني من القاهرة إلى الجيزة

الحديث عن تمثال رمسيس يحتاج إلى وقفة، فلقد تم اكتشافه في قرية “ميت رهينة”، ونقل إلى وسط القاهرة بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر، وذلك بعد قيام ثورة 23 يوليو 1956 ليحل كبديل لتمثال “نهضة مصر”، الذي قال عنه سعد زغلول في خطاب أرسله للفنان محمود مختار داعم ثورة 1919 وصاحب فكرة إقامته، “شاهدت التمثال الذي رمزت به لنهضة مصر، فوجدته أبلغ رمز للحقيقة، وأنهض حجّة على صحتها، فأهنّئك على هذا الخيال الواسع، وهذا الذوق السليم، وهذا الفن الساحر، وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها، وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها، فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام”.

وهي معلومة لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام على المشاهد، لأنها إشارة وتلميح من المخرج إلى أنها لم تكن مجرد رغبة في تبديل تمثال تم اكتشافه في الآخر، وإنما جاءت كرغبة في تغيير سياسي شامل يطال حتى الرموز وأسماء الساحات والميادين وما فوقها.

فيلم “رمسيس راح فين؟” يلقي الضوء بشكل سلسل على التفاصيل السياسية التي عاشتها مصر منذ ثورة يوليو 1956 وحتى اليوم
فيلم يلقي الضوء على التفاصيل السياسية التي عاشتها مصر منذ ثورة يوليو 1956 وحتى اليوم

ولكن عملية التحضير لنقل رمسيس في رحلته الأولى للميدان، والتي استغرقت حينها عاما كاملا، جعلت منه كما يظهر في الفيلم، مادة دسمة للصحافة وخاصة بالنسبة إلى رسام الكاريكاتير جورج بهجوري الذي كان ينتظر كغيره قدوم ذلك التمثال الضخم الشاهق الطول ليقف منتصبا في الميدان، فقام بالتمهيد لحضوره عبر رسومات كاريكاتيرية، فجعل منه جزءا من تكوين المكان وعنصرا أصيلا فيه، فتخيّله وهو نائم أو وهو يحتفل أو يمارس حياته الطبيعية وسط أصدقائه من المصريين.

بقي تمثال رمسيس الثاني لمدة خمسين عاما، واقفا وشامخا، إلى أن تقرّر وللمرة الثانية، تحديدا في العام 2006 نقله من ميدان رمسيس، وذلك أيضا بقرار سياسي اختلفت الآراء حول أسبابه، فغادرها وسط احتفال شعبي، كبطل أسطوري.

حاول عمرو بيومي في فيلمه “رمسيس راح فين؟” تحقيق معادلة صعبة يعجز عن تحقيقها الفيلم الوثائقي عادة، حين جعل منه فيلما وثائقيا ولكن بنكهة رومانسية عاطفية وحتى كوميدية، مستثمرا كل ما يمكن لفيلم وثائقي استثماره، من حيث المواد الأرشيفية التي استند إليها، أو عبر تصويره الذاتي برفقة صديقه مجدي يوسف، كما أنه استعان بموسيقى تصويرية مميّزة مستمدة من التراث الشعبي أو فصّلت خصيصا للفيلم، لدرجة بات فيها العمل رغم أنه من النوع الوثائقي، قادرا على العرض بشكل جماهيري وسط إعجاب شعبي كبير.

عمرو بيومي مخرج وممثل مصري من مواليد عام 1961 حصل على بكالوريوس الإخراج من المعهد العالي للسينما قسم الإخراج عـام 1985، عمل مخرجا مساعدا في 15 فيلما روائيا بين عامي 1984-1988، له العديد من الأفلام التسجيلية القصيرة منها: “الجسر” و”الشمس لم تشرق غدا”، وفيلمان روائيان، هما “الجسر” عام 1997 و”بلد البنات” عام 2008.

14