وثائقي تونسي مرشح للأوسكار عن غسيل الدماغ للمراهقات والانتهاء في أحضان داعش

تونس- لا تعرف ألفة الحمروني الكثير عن حفيدتها؛ لا لعبتها المفضلة ولا الطعام الذي تفضله، هل هو المعكرونة التي تحبها ابنتها، أم أكلة أخرى؟
لا تحاول الجدة التونسية حتى التفكير في الإجابة. وقالت “لا أريد أن أعرف. لا يخلف هذا سوى المزيد من وجع القلب”.
وتركز الجدة جهودها حاليّا على تحرير فاطمة البالغة من العمر 8 سنوات. لقد أمضت الفتاة الصغيرة جل حياتها تقريبا مع والدتها وخالتها (أكبر بنات الحمروني) في الحجز في ليبيا، بعد مغادرتهن تونس للالتحاق بتنظيم داعش.
كانت قصة الحمروني وبناتها محور فيلم “أربع بنات”، المرشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل. وتتعدد القضايا التي يتناولها فيلم المخرجة كوثر بن هنية، حيث يصور تطرف فتاتين مراهقتين، ويوفر صورة مقربة لحياة أسرية فوضوية، ويتأمل في صدمة الأجيال والنظام الأبوي والأمومة والمراهقة.
وتتجاوز القصة كونها مجرد حكاية عائلة واحدة.
تتغير الأسماء، وتختلف التفاصيل، لكن الكابوس يعدّ مألوفا لبعض التونسيين، حيث هجر الكثيرون عائلاتهم في مرحلة ما للانضمام إلى الجماعات المسلحة، بما في ذلك تنظيم داعش. كما هاجم المتشددون أهدافا داخل تونس. وتعيش عائلات مثل عائلة الحمروني اليوم ذكريات حية من هذا الإرث المعقد، وقضايا لم تحل وأسئلة صعبة عالقة منذ سنوات.
وقالت الممثلة هند صبري، التي تظهر في الفيلم بدور الحمروني في بعض المشاهد، “إنه جرح مفتوح في بلدي. لن نتعافى طالما لا نتحدث عنه”.
وتأمل الحمروني أن يعزز الانتشار الكبير للفيلم دعوتها إلى إعادة بنتيها من ليبيا، حيث حكم عليهما بالسجن، ومحاكمتهما في بلدهما الأم. ويبقى البعض في تونس، وغيرها من البلدان، متشككا وخائفا من العائدين لأسباب أمنية.
وتريد الحمروني تحرير حفيدتها فاطمة. وتساءلت في تصريحات لوكالة أسوشيتد برس “ما هو خطؤها؟ إنها لم تختر والدها أو والدتها”.
ورددت بن هنية، التي كتبت سيناريو الفيلم وأخرجته، نفس المطالب. وقالت “نحاول الضغط على الحكومة التونسية. إن الدولة مسؤولة عن مواطنيها”.
وتظهر الحمروني وابنتاها الصغريان، آية وتيسير، واللاتي يُجسدن أنفسهن. ويشمل الطاقم ممثلتين إلى جانب صبري، تلعبان دور غفران ورحمة اللتين غادرتا تونس بينما تعيد بن هنية بناء ماضي العائلة بحثا عن أدلة على تطرفها، (يقدم الفيلم نظريات ولكن دون دوافع حاسمة، خاصة مع غياب تعليقات من غفران ورحمة الحقيقيتين الموجودتين في سجن ليبي).
وتعيد الممثلتان تجسيد محطات رئيسية في حياة الشخصيات إلى جانب أفراد الأسرة الحقيقيين في بعض اللقطات. وتطرح بعض المشاهد تساؤلات تتحدى المشاهد أو تدعوه إلى التفكير. وقالت بن هنية إن دورها كمخرجة يقتصر على الفهم والتحليل وليس الحكم.
ويروي الفيلم حكاية العائلة، وترعرع بنتين في عائلة متواضعة بمنزل مضطرب. وكان الأب غائبا إلى حد كبير ومتعاطيا للخمر بينما كانت الأم مثقلة بالمسؤوليات وقاسية.
وتركز الحمروني في الفيلم على الحفاظ على نقاء بناتها الجنسي قبل الزواج. وكانت سريعة في توجيه الاتهامات والصراخ ومعاقبة تجاوزاتهن المتصورة أو الحقيقية (إزالة شعر الساق، وكتابة في المذكرات عن قبلة أولى) بالضرب المبرح.
وقد وُوجهت الأم بشيء من التمرد، وانجرت الفتاتان إلى الانخراط في بعض المغامرات، منها مغامرة مع رجل ذي دراجة نارية. ثم دفعت التغييرات التي اجتاحت تونس إثر احتجاجات الربيع العربي المؤيدة للديمقراطية قبل أكثر من عقد إلى تحول آخر حيث تنافست تيارات مختلفة، بما في ذلك تيارات المتشددين والمتطرفين. ونُصبت خيمة وعظ في الحي الذي تقطن فيه العائلة.
وتعرفت غفران ورحمة، اللتان تقول والدتهما إن معرفتهما الدينية كانت محدودة، على تفسيرات للدين صارمة. ثم تعمق تطرفهما. وصوّر الفيلم كيف جلدت رحمة شقيقاتها الأصغر سنا لتفويتهن الصلاة أو تأخرهن عن أدائها، وجلدت نفسها لخطايا مثل النميمة، وتخيلت نفسها ترجم امرأة مارست الجنس خارج إطار الزواج.
وعندما غادرت غفران منزلها قبل حوالي عقد طلبت الحمروني، وفقا للفيلم، مساعدة الشرطة على منع رحمة من اللحاق بها. وتتهم اليوم الشرطة بالتقصير.
وانهارت الأسرة. وحزنت الحمروني على البنتين الغائبتين وقلقت على الباقيتين. وكانت إحداهما تحب رحمة كثيرا. وكانت صغيرة السن في تلك المرحلة وتبنّت معتقدات أختيها. أما آية فقد نأت بنفسها.
وتقرر وضع الفتاتين الأصغر سنا في منشأة حكومية، وتعتبران أنها ساعدتهما على إعادة بناء حياتهما. لكن الحياة كانت صعبة على الأسرة وكان الجيران والأقارب يتجنبونها.
وقال محمد إقبال بن رجب من جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج إن بعض الذين وجدوا أنفسهم في أوضاع مماثلة تبرأوا من أفراد أسرهم الذين غادروا. واختاروا ذلك أحيانا لحماية أولئك الذين بقوا من التداعيات. ويحاول آخرون إعادة أحبائهم. ولا يعرف البعض ما إذا كان أقاربهم على قيد الحياة.
وأكد أن منظمته لا تدافع عن التونسيين الذين تلطخت أيديهم بالدماء، بل تدعو إلى إعادة تأهيل الآخرين، وخاصة إنقاذ الأطفال الذين جرهم آباؤهم إلى مناطق النزاع أو الذين ولدوا خلاله وإعادة إدماجهم. ويرى أن تونس قد تفتقر إلى القدرات الكافية، ويقول إن السلطات غالبا ما تبدو متباطئة.
ويشعر بن رجب وغيره من النشطاء بالقلق أكثر على حقوق الأطفال ومستقبلهم. ويحذر من أن التقاعس قد يكون محفوفا بالمخاطر.
وقال مصطفى عبدالكبير، مدير المرصد التونسي لحقوق الإنسان، “المكان الطبيعي للأطفال هو… الأسرة الممتدة والمدرسة. سوف يحقدون على المجتمع بعد قضاء فترات طويلة في السجون والمخيمات… وسيتحولون إلى قنابل موقوتة”.
ودعا عبدالكبير السلطات التونسية إلى إيجاد حلول، وخاصة إعادة الأطفال من الخارج. لكنه يتفهم أن قضية الإعادة إلى الوطن تبقى غارقة في عدد لا يحصى من التحديات الدبلوماسية والسياسية والمالية والقانونية واللوجستية.
وذكر عبدالكبير أن بعض النساء التونسيات اللاتي برأتهن المحاكم الليبية عدن إلى تونس، حيث تقرر احتجازهن. وأضاف أن هناك أطفالا، بمن فيهم الأطفال اليتامى، أعيدوا أيضا. وقال إن الأطفال سُلّموا إلى الأقارب أو وضعوا في مرافق الرعاية الاجتماعية الحكومية. ولم يقدم مسؤولو الحكومة التونسية تعليقا، ولم يردوا على أسئلة حول قضية الشقيقتين وقضية إعادتهما إلى الوطن في الوقت المناسب للنشر.
وقالت صبري، وهي واحدة من أشهر نجمات العالم العربي، إن قلبها ينفطر على فاطمة. لكنها تجد صعوبة في التعاطف مع غفران ورحمة. وتؤكد على أهمية مساءلة التونسيين الذين انضموا إلى الجماعات المتشددة.
ورأت الحمروني أثناء التصوير مرآة صورت حياتها.
وقالت الأم، التي عاشت طفولة صعبة، إنها تدرك مواضع الأخطاء التي ارتكبتها، لكن أخطاءها لا تبرر قرارات ابنتيها. كما تتهم المناخ العام والسياسات الحكومية في وقت تطرفهما في سن مبكرة وتقول إن الاثنتين ندمتا الآن على خياراتهما.
وانخفض صوت الحمروني حين سئلت عن فاطمة، وامتلأت عيناها بالدموع.
وتتساءل عمن سيعلم فاطمة الأخلاق ويحدثها عن بلدها، وكيف يفترض بها أن تكبر لتحب تونس، وتعرف كيفية التعامل مع الآخرين.
تزوجت الحمروني مرة أخرى وهي تعيش الآن خارج تونس. وأكدت أنها لن تضرب حفيدتها إذا سُمح لها بالعيش معها. وقالت “سأعلمها الصواب من الخطأ وأسمح لها بأن تتخذ خياراتها بنفسها”.
ولا يعد أي شيء مؤكدا اليوم. وتتعاطف الجدة مع فاطمة، وتدرك قلة معرفتها بالعالم، وكيف يمكن أن يعاملها الآخرون. وقالت الحمروني “كان ماضيها قاتما. والله أعلم بما ينتظرها”.