وتعطلت لغة الكلام

للكاتب العراقي الراحل نجيب المانع رواية بعنوان "تماس المدن" كتبها بعد أن ترجم العديد من الكتب المهمة عن اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
قبله كانت صديقة الملاية قد غنت “للناصرية/ بو جناغ أخذني وياك للناصرية/ بثنين أيديه تعطش وأشربك ماي/ بثنين إيديه”، ولطالما احتلت المدن حيزا كبيرا في العاطفة الإنسانية.
يحن المرء إلى مدينته على طريقة “كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبدا لأول منزل” حسب ابن الموصل أبوتمام أو يستعيدها ليكتب سيرة حياته على طريقة المصري يوسف شاهين في فيلميه “إسكندرية ليه” و”إسكندرية كمان وكمان” أو يوثق لصعود طبقاتها الاجتماعية وانهيارها مثلما فعل لورنس داريل في رائعته الروائية “رباعية الإسكندرية”، أو يراقب حركة ناسها مثلما فعل بول أوستر في روايته “ثلاثية نيويورك”.
وكم كان إبراهيم عبدالمجيد مصيبا حين كتب روايته “لا أحد ينام في الإسكندرية”.
وحين غنت فيروز “شط إسكندرية يا شط الهوى” فإنها استحضرت روح الموسيقي سيد درويش ابن المدينة التي كانت لا تنام.
وللمدن المقدسة قوة إلهام لا تُقاوم هي التي دفعت الشاعر سعيد عقل إلى أن يكتب قصيدته “غنيت مكة أهلها الصيدا/ والعيد يملأ أضلعي عيدا” ومنها “يا قارئ القرآن صل لهم/ أهلي هناك وطيب البيدا”.
ولم يكن مستغربا حينها أن القصيدة التي تحولت إلى أشهر أغنية عن مكة كان كاتبها مسيحيا وملحناها مسيحيا ومطربتها مسيحية. لا لشيء إلا لأن لمكة موقعا مرموقا في العاطفة العربية بسبب مكانتها الدينية والتاريخية. كما هو حال مدينة القدس التي كتب الإخوان رحباني عنها “زهرة المدائن” وغنتها فيروز.
ولعل زحلة، المدينة اللبنانية قد ارتقت ذرى العاطفة حين كتب أحمد شوقي قصيدته “يا جارة الوادي” من أجل أن يغنيها محمد عبدالوهاب، ويقول فيها “وتعطلت لغة الكلام وخاطبت/ عيني في لغة الهوى عيناك”.
ولم تكن تلك المرأة بعينيها الآسرتين سوى زحلة التي كان العراقيون قد أطلقوا اسمها على مشروبهم الروحي الوطني.
وفي العراق أيضا غنت أم كلثوم من تأليف محمود حسن إسماعيل “بغداد يا قلعة الأسود/ يا كعبة المجد الخلود” التي لحنها رياض السنباطي وظل التلفزيون العراقي يستعمل مقدمتها الموسيقية شارة لنشراته الإخبارية زمنا طويلا.