وبينهما كامخ

غدا هو اليوم العالمي للغة العربية الذي سيطرح هذا العام سؤال: ضرورة أم تَرَف؟ والذي لا أعتقد أنه سيحقق فائدة تذكر سواء بطرحه أو بمحاولات الإجابة عنه، لأن لغة الضاد ورغم أن عدد الناطقين بها يصل إلى 400 مليون من عُمان إلى موريتانيا ومن الأحواز إلى تشاد والنيجر ومالي، ورغم أن أكثر من مليار مسلم يتعاملون معها بتقدير كبير لكونها لغة كتابهم المقدس، تبقى في حالة توهان حضاري نتيجة عجز أهلها على مواكبة العصر، وعلى تطويعها لاحتواء مفرداته، وخصوصا مع التطوّر العلمي والتكنولوجي الهائل الذي بات يفرض ثقافة ولغات الأمم والشعوب التي تقف وراءه، ولا من يقفون في آخر طابور الحضارة.
لذلك فإن حتى استعمال اللغة العربية يجري في إطار تهيمن عليه اللغات الأخرى، كأن نفتح الكمبيوتر أو التابليت أو الموبايل ونتصل بالإنترنت ثم نفتش في غوغل على مفردة من لسان العرب، أو نفتح التلفزيون ونأخذ الريموت كونترول لنشغّل الريسفير من أجل أن نشاهد الأخبار على قناة عربية، كل التجهيزات التي نعتمد عليها في التصوير والمونتاج والميكساج والغرافيك ديزاين والبث عبر الساتلايت هي ماركات أجنبية وأغلب أسمائها باللغة الإنجليزية.
عندما كان العرب يشكلون قوة توسعية على مستوى العالم، خرجوا بلغتهم من جزيرتهم، وأثّروا بها على اللغات الأخرى كالتركية والفارسية والكردية والأوردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الأفريقية الأخرى مثل الهاوسا والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية وخاصةً المتوسطية منها كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية، وكذلك الفرنسية والإنجليزية، وغيرها، حتى أنها تعتبر الرافد الثاني إلى جانب اللاتينية في اللغة الإسبانية التي تحتوي على ما لا يقل عن 4000 مفردة عربية، لا تستعمل فقط في الجزيرة الإيبيرية وإنما في الدول الأخرى الناطقة بالإسبانية في أميركا اللاتينية أيضا.
مشكلتنا الأساسية أن لغتنا أصبحت بالأساس لغة تراث، وأداة تواصل في مجتمعات محلية مغلقة من خلال لهجات تحاول أن تجعل من نفسها لغات بديلة، وكذلك لغة أدب مهمل ومؤلفات غير مقروءة، فالمواطن العربي يقرأ أقل من كتاب واحد في العام، وبمعدل 6 دقائق سنوياً بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنويا، وحتى قراءة الصحف تراجعت، ولم يعد في ديار العروبة صوت يحيي لغة الضاد بقصائد فصيحة كما كان يفعل عبدالوهاب أو أم كلثوم، وتخلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عن الفصحى وعوضتها بهجين لغوي قد يكون أقرب إلى لغة أهل مالطا.
وعندما اصطدم العرب وهم في حالة ضعف وهوان وتشتت بالثورات الصناعية والتكنولوجية والاتصالية وغيرها، لم يعجزوا فقط عن مواكبتها فكريا وعلميا، وإنما كذلك نفسيا، وباتوا يترجمون على أرض الواقع ما ورد على لسان ابن خلدون من أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، فأثّر ذلك على اللغة، وجعل كل محاولات تطويعها لمواكبة إنجازات العالم المتقدم تبوء بالفشل، بل وتثير السخرية في أحيان كثيرة، كما في عبارة “شاطر ومشطور وبينهما كامخ” التي راجت في السبعينات على أنّها ترجمة قام بها مجمع اللغة العربية بالقاهرة لعبارة “سندويتش” الإنجليزية، والكامخ هو إدامٌ يُخصّ به أنواعُ مخللاتِ الطعام ومشهياته.
ورغم أنني أبرِّئ فقهاء اللغة من هذه الخزعبلة، إلا أنني أراها تخفي وراء انتشارها سخرية سوداء نتيجة حالة يأس من قدرة المجامع اللغوية والأكاديمية وغيرها على استحداث مفردات تجمع العرب على مواكبة العصر، بل وعلى إمكانية اعتمادها للاستعمال في حالة إيجادها، لأن الآليات والأدوات المتداخلة في نشر وترويج اللغة لم تعد كما كانت في الستينات مثلا؛ مدرسة وإذاعة وجريدة وكتاب ومحطة تلفزيون في أقصى الحالات، وإنما هي اليوم تقنيات في منتهى الكثرة والسرعة والتطوّر والسيطرة على العقل والانفعالات ومختلف جوانب الحياة، إلى درجة أن الرضيع في بلاد العرب بات يتكلم المفردات الأجنبية قبل أن ينطق بكلمة من لغة الضاد، متأثرا بما حوله من بيئة أغلب ما فيها وافد من وراء البحار.