واقع شح المياه يقسو بشدة على المزارعين في العراق

حفر الآبار بات الملاذ الأخير لأصحاب الحقول رغم المخاطر التي تهدد باستنزاف المياه الجوفية.
الاثنين 2022/10/31
نظرة مختلفة إلى الوضع

يعكس واقع الزراعة في العراق تحذيرات الخبراء من أن المشاكل المكبلة للقطاع المهم لغذاء سكان البلد النفطي في ظل شح المياه ستترك آثارا أكثر قسوة على المنتجين وأصحاب المواشي بعدما وجدوا أنفسهم محاصرين في أزمة خانقة لم يشهدوها من قبل.

المشخاب (العراق) - تتزايد موجة جنوح المزارعين في العراق إلى حفر الآبار لاستخراج المياه بعدما خلف الجفاف ندوبا عميقة على أعمالهم في الحقول التي كانوا يطمحون إلى أن تتحسن بعد تراجع المحصول في الموسم الماضي.

ويمرّ البلد بموسم جفاف هو الأسوأ منذ أكثر من تسعة عقود مع انحسار في الأمطار ومناسيب الأنهار، وكذلك ارتفاع التكاليف، ما يبدد فرص حصولهم على بعض الأموال لإدارة شؤونهم في ظل وضع ضاغط لم يسبق لهم أنه مروا به.

وكمثال على ذلك، يقف المزارع جبار الفتلاوي في حقله مراقبا المضخات الضخمة وهي تحفر بئراً في الأرض، باتت بالنسبة إليه الملاذ الأخير لريّ محاصيله وإرواء ماشيته، وسط الجفاف الذي يخيّم على العراق، لكن تلك الآبار تهدد بنفاد المياه الجوفية في البلاد.

ويروي جبار، المزارع “أبا عن جد”، لوكالة الصحافة الفرنسية أنه يزرع منذ سنوات عدة الأرزّ والحنطة في حقله في محافظة النجف في جنوب العراق. لكنه يؤكد أن هذا العام مختلف، لأنه “لا توجد مياه”.

جميل الأسدي: اللجوء إلى الآبار مقترن بالاعتماد على طرق الري الحديثة
جميل الأسدي: اللجوء إلى الآبار مقترن بالاعتماد على طرق الري الحديثة

ولذلك سجّل اسمه لدى السلطات المحلية ودفع أموالا لحفر بئر تسمح له بريّ “أشجارنا ونخلاتنا وإرواء الماشية”، كما يشرح هذا الأب لخمسة أولاد والذي يزرع أيضا الفجل والبصل والشبت.

وقرب منزله في قريته المطلة على نهر الفرات في قضاء المشخاب، كانت آلة حفر البئر تغرز في الأرض وتخرج مياها موحلة.

ولجأ جبار في الماضي إلى حفر آبار بالطريقة التقليدية، والتي تحذّر السلطات منها. ويقول “أحياناً كانت تخرج المياه مرة أو مالحة” منها.

ويعدّ العراق من بين أكثر خمس دول تأثراً بالتغير المناخي بحسب الأمم المتحدة، فهو يواجه ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة ونقصاً في المياه.

وفيما البلد “معرض لسنة جافة أخرى”، أعلنت وزارة الموارد المائية في أكتوبر الماضي عن خطة لاستخدام المياه الجوفية في ست محافظات “لأغراض الزراعة”، من بينها النجف.

لكن الوزارة شدّدت على ضرورة احترام ضوابط في الاستهلاك لعدم “استنزاف” الخزين وتعرضه إلى “هبوط كبير بشكل سريع”.

وخلال النصف الأول من هذا العام، حفرت حوالي 500 بئر، لكن بهدف منع استغلال المياه الجوفية بشكل متزايد، تمنع السلطات حفر الآبار بطرق غير قانونية.

ويشير تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) إلى أنه على الرغم من أن العراق وضع قوانين تنظّم عملية حفر آبار جديدة لأهداف زراعية، إلا أن “البلاد لا تستخدم نظام تعرفة للحدّ من استخدام المياه الجوفية”.

ويتحدث التقرير الذي نشر في سبتمبر الماضي عن غياب مبادرات “لتشجيع استخدام وسائل الري الحديثة”.

ويلجأ غالبية المزارعين في العراق إلى وسائل تقليدية في الري، عبر غمر أراضيهم تماماً بالمياه، لكن ذلك يتسبب بهدر في المياه في وقت تحتاج فيه البلاد إلى ترشيد استهلاكها.

ويشرح جميل الأسدي المدير العام للهيئة العامة للمياه الجوفية فرع النجف أن غالبية الآبار حفرت خصوصاً في “المناطق الزراعية التي كانت تروى سابقاً عن طريق جداول الأنهار”.

وأوضح أنه لكي تشجع المزارعين على اللجوء إلى السلطات لحفر الآبار بدل القيام بذلك بشكل غير قانوني، خفضت وزارة الموارد المائية تعرفة الحفر إلى النصف.

استخدام وسائل الري الحديثة ضروري
استخدام وسائل الري الحديثة ضروري

لكن في المقابل اشترطت على المزارعين “استخدام طرق الري الحديثة لغرض الحفاظ على الخزين الإستراتيجي للمياه الجوفية”.

ويمكن استخدام مياه الآبار هذه في “إرواء الحيوانات وسقي البساتين والمزارع”، وفق الأسدي. لكنها لا تصلح لسقي محاصيل الأرزّ والحنطة، نظراً إلى ارتفاع نسبة الملوحة فيها.

وفي عمق الصحراء في بادية النجف التي تبعد حوالى 30 كيلومترا عن مركز المحافظة، لا أنهار تروي المكان، ولذلك اعتاد المزارع حسين بديوي على حفر الآبار لري محاصيله من الشعير والأعلاف لأغنامه منذ عقود على غرار ما يفعل جيرانه.

لكنها اليوم لم تعد كافية ولذلك دفع الرجل أموالاً للسلطات لحفر بئر أكثر عمقا من أجل الحصول على يكفيه لري حقوله.

ويقول الرجل الذي تبلغ مساحة أرضه 200 دونم “سابقاً، كنا نحفر الآبار بعمق 50 مترا وكنا نحصل على كميات كبيرة من المياه، لكن اليوم نحفر حتى مئة متر، و110 أمتار في الأرض لكي نحصل على المياه”.

ويضيف “كانت البئر الواحدة تسقي الكثير، الآن كثرت الآبار، وجفت المياه (…) أصبحت قليلة”.

الإسكوا: البلد لا يتبنى نظام تعرفة للحدّ من استخدام المياه الجوفية
الإسكوا: البلد لا يتبنى نظام تعرفة للحدّ من استخدام المياه الجوفية

وحذّرت وزارة الموارد المائية في يوليو الماضي من أن “الاستخدام الجائر للمياه الجوفية أدى إلى مشاكل كثيرة”، مشدّدةً على ضرورة “الحفاظ على هذه الثروة”.

وعلى سبيل المثال، جفّت بحيرة ساوة في جنوب العراق هذا العام خصوصاً بسبب حفر نحو ألف بئر بشكل عشوائي ما تسبب بتجفيف المياه الجوفية التي كانت تغذيها.

وكذلك حذرت الوزارة من تحدّ آخر، إذ “في حالة سحب كميات كبيرة من المياه الجوفية ستزداد نسبة الملوحة”.

وفي العراق البالغ عدد سكانه 42 مليون نسمة حيث تمثّل الزراعة نسبة 20 في المئة من الوظائف، وثاني مساهم في الناتج المحلي الإجمالي بعد النفط، يتسبب التغير المناخي واستجابة السلطات غير الكافية له في اضطرابات اجتماعية ونزوح.

ويتظاهر السكان أحياناً بجنوب البلاد لمطالبة السلطات باتخاذ إجراءات أكثر صرامة لإرغام تركيا على زيادة تدفق المياه من سدودها.

ويروي صلاح الفرعون (75 عاما) أنه يعمل في الزراعة “منذ نشأته” في أرضه البالغة مساحتها 100 دونم، حيث يزرع الحنطة في الشتاء والأرز في الصيف، لكن إمكانية زراعتها باتت محدودة الآن بسبب “المياه الشحيحة وغير الكافية”.

وقال “إذا أردنا حفر آبار، نسبة الملوحة فيها عالية جداً ولا تصلح للزراعة”. وأضاف “لا يوجد أرزّ ولا توجد حنطة، كيف يعيش الإنسان؟”، متابعا بحسرة “قد نهاجر. لكن أين نهاجر؟ البلد منهوب ومسلوب”.

11