وارد بدر السالم يكتب روائيا مأساة العراقيين الأيزيديين

لم أقف مندهشا ومصعوقا عند رواية عراقية بقدر ما وقفت متأملا قدرة الكاتب العراقي وارد بدر السالم في منجزه الروائي التراكمي/ النوعي وروايته الجديدة “عذراء سنجار”.
لم تكن الرواية، الصادرة عن دار منشورات ضفاف ببيروت 2016، سردية نواح الفقدان وبكاء الأطلال وتقليب أوجه مأساتها، ولم تكن بروبغندا/ دعائية لمواساة هذه الشريحة المنكوبة أو حتى نصرتها أو الدفاع عنها، بقدر ما غاصت الرواية وبنسيج سردي متماسك من حيث البنية السردية وتقنياتها المحكمة للغوص في أعماق هذه الشريحة المنسية على أطراف الجبال البعيدة.
تتكشف القدرة العجائبية منذ الصفحات الأولى في هندسة نظام الروي وفاعليته بطريقة التقاط زاوية الحدث وتدويره على جغرافية مكان نتحسسه من دون أن نراه بالعين المجردة، نشم عطور زهوره وأعشابه الجبلية من دون الحاجة إلى رؤيته المجردة بالعين، ونتصارع كقراء مع شخوص الرواية؛ نمقت بعضهم ونتعاطف مع شخوص آخرين كعيدو المخبول وآزاد وسالار والفتى والمرأة الحامل دون أن نراهم، فمن تحوّل منهم واندمج مع دين الدواعش ومن بقي متواريا عن الأنظار.
أجواء الخوف
كل الأحداث تتجسد في مشهدياتها الحوارية بهدوء رغم الانفعال الداخلي للشخوص وهم يخوضون مأساة سبي السنجاريات وتقتيل السنجاريين وتكفيرهم أو إدخالهم بالقوة في الدين الجديد. رغم كل ذلك والسالم لم يكن منفعلا في لملمة أحداث الرواية وطريقة هندستها، مما جعل الأحداث تنساب بطريقتها الساحرة هذه.
كل الأحداث تتجسد في مشهدياتها الحوارية بهدوء رغم الانفعال الداخلي للشخوص وهم يخوضون مأساة سبي السنجاريات
كذلك إن الرواية لم تدخل منطقة سياحة المعلومات التي يعتمدها البعض من الكتاب الروائيين في الغوص في لب المناطق النائية للحصول على لحظة الاكتشاف الإدهاشية، فقد توافقت انسيابية السرد وتكثيف الجهد المعلوماتي/ المعرفي وفق ما تقتضيه مشهدية الحدث.
وحتى شخصية عيدو المجنون الذي يسب ويشتم الدواعش بثلاث لغات هي العربية التي تعلمها أيام تجنيده في الجنوب ذات حرب، والكردية اللبنانية وحتى التركمانية، وهنا نشير إلى الجهود الكبيرة التي بذلها الكاتب في سياق نمو الأحداث والشخوص معا نموا طبيعيا لا قسريا.
|
بعد سقوط المدينة بأشهر قليلة بيد الدواعش، تعرفنا على كل دروب سنجار ومثاباتها وطرقها الميسمية وسوق الخضرة ونحن في أمكنتنا جالسين، هذه الجغرافيا المعقدة وهذه الديانة التي لم يتعرف عليها الكثير من العراقيين، وهذه الموسوعية العالية في الدقة والأمانة التاريخية في تفكيك رؤية الآخر (العربي) للإيزيديين والعكس أيضا في نظرة الأقلية الإيزيدية إلى المسلم العربي الذي استباح مدينتهم الوديعة باسم الشريعة ودين الآخر.
هذه الأقلية التي تمارس الطقوس/ العبادات/ أنماط المعيشة بعيدا عن استفزاز الآخر، فتعرفنا عن أسرار الديانة الإيزيدية وكأن السالم خرج مؤقتا عن ملته وتلبّس ثوب الديانة الأخرى ليرفدنا بدقة المعلومات التاريخية والدينية وأنماط العيش بحيادية الباحث وبمكر السارد العجيب، غير أن الكاتب كان واعيا وبحذر شديد من الدخول في منجم الروايات السياحية والتي تعرّف الآخر بمحتوى سردي تفحصي.
حيادية الراوي
ابتعد الكاتب عن النمط التقليدي في السرديات المتعارف عليها في هكذا نمط من الروايات الملحمية، فكانت نزهة معرفية لأسرار دون القصور في فنية البناء السردي أو سقوطه في وحل الترويج الدعائي، لذلك عمد إلى اعتماد آلية سردية مبتكرة؛ المرأة الحامل في الفصل الأول وهي تحدث الصقر والغراب والكلب حديث البشر مع الحيوان، وتلك الحيوانات تدخل في حوار متبادل معها، في مفتتح مستفز لذائقة الرواية العراقية التقليدية، فكانت الحصيلة هي المتعة والمعلومة والموقف الافتراضي مما حصل عن مأساة المجتمع الإيزيدي دون تزويق أو نشر لمظلوميتهم بطريقة ينفر منها القارئ، بعدما عمد أيضا إلى تكثيف جملته السردية لتلاحق الحدث وخلق عنصري التشويق والجذب الضروريين، ورغم أن الرواية تجاوزت حاجز الأربعمئة صفحة لكنها امتازت بعنصري التشويق والمتابعة لمصائر الأبطال.