هيمنة "التنسيقية" تفاقم متاعب الأحزاب المصرية

القاهرة - اتسع النشاط الاجتماعي لتحالف “تنسيقية شباب الأحزاب” المكون من نحو 28 حزبا، وبدت القوى المنضوية تحتها باهتة في صورتها المنفردة، ما أدى إلى تزايد المشكلات داخل عدد من الأحزاب، وقد قادت هذه المشكلات إلى عدة استقالات من هيئات هذه الأحزاب أخيرا.
وضربت الخلافات والاستقالات أحزاب الحركة الوطنية والحرية والوفد والمصريين، وبعضها له علاقة بالإزدواجية التي أدت إليها تنسيقية شباب الأحزاب والتناقضات العميقة التي خلقتها بين الولاء السياسي لها وبين الانتماء إلى الأحزاب التي ينحدر منها الأعضاء، حيث طغى الولاء والانتماء إلى الأولى على حساب الثانية.
ورضيت بعض الأحزاب بهذه الصيغة بعد أن حظيت التنسيقية برعاية رسمية ويتم تقديمها باعتبارها بوتقة يجب أن تنصهر داخلها جميع الأحزاب، مما ضاعف من الخلافات الحزبية وأسهم في تقويض حضورها المحدود أصلا في الشارع الذي بدأ ينظر إليها على أنها مظلة رسمية أو شبه رسمية نجحت في استقطاب رموز من الشباب، بصرف النظر عن إنصاتهم إلى نبض الشارع أو عدم إنصاتهم.
ويقول مراقبون إن تحكم التنسيقية في مفاصل العمل السياسي الظاهر عمق جراح الأحزاب المصرية التي يبلغ عددها نحو مئة حزب، بعضها تجمد نشاطه، وبعضها الآخر لا يزال يتحرك في نطاق الهامش المحدود المتاح أمامه.
التنسيقية تحولت إلى مفرخة شبابية يتم تدريب أعضائها في أكاديميات تابعة للدولة ليكونوا نواة تعتمد عليهم في تحقيق أهدافها
ويضيف هؤلاء أن النشاط الذي دب في عروق التنسيقية مؤخرا وعكسه تركيز وسائل الإعلام على تحركاتها، وهي التي لم تمض على تأسيسها سوى ثلاث سنوات، لا يتناسب مع قدرات الأعضاء ومواهبهم السياسية.
لكن الرعاية التي تحظى بها من قبل عدد كبير من أجهزة الدولة التي تتعامل معها على أنها حزب الحكومة هي التي منحتها قاعدة نسبية لدى بعض الفئات الشبابية الباحثة عن مكاسب متباينة وليست التي تملك تأثيرا سياسيا.
وسوف يظل هذا الكيان نخبويا وبعيدا عن نبض الشارع طالما يتم النظر إليه كمدخل للحصول على مزايا بعد حصول المنخرطين في هياكله على نسبة تمثيل جيدة داخل البرلمان المصري في الانتخابات الأخيرة، بغرفتيه النواب والشيوخ، إلى درجة أن ذلك أدى إلى تهميش حزب مستقبل وطن الذي بدا كأنه الحزب المعبر عن الحكومة.
وقد يكون القصد من ارتفاع حظوظ التنسيقية في النظام المصري تحويلها إلى مفرخة شبابية، حيث يتم تدريب أعضائها في أكاديميات تابعة للدولة بغرض تجهيز كوادر تنتشر في مجالات عديدة لتكون نواة تعتمد عليها في تحقيق أهدافها.
وعجلت هذه الطريقة بقتل بارقة الأمل التي راودت بعض الأحزاب حول إمكانية إقدام الحكومة على إصلاحات سياسية حقيقية، وقادت إلى توسيع نطاق الشروخ في عدد كبير من الأحزاب التي يصفها البعض بـ”الكرتونية” كتعبير عن الفشل وعدم القدرة على اختراق الحواجز، وأن المراد منها تكملة الشكل السياسي لأن نشاطها لا يتجاوز حدود اللافتة التي ترفع على مقر الحزب.
وقضى التضييق العام على النشاط السياسي في الشارع على الكثير من مظاهر الحيوية التي دبت فيه عقب ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، وتكاد الأحزاب التي ظهرت خلال هذه الفترة تندثر، وأصاب غالبيتها إحباط بعد تسلل فكرة انعدام الجدوى من وراء أي عمل سياسي.
وفي الوقت الذي عزفت شريحة كبيرة من النخبة المصرية عن المشاركة يأسا وعدم ثقة في الأجواء الراهنة، بدأ نجم التنسيقية يتعاظم عبر الأنشطة الاجتماعية ومن خلال الدورات التثقيفية التي تصب في خانة الدفاع عن سياسات الحكومة.
ويصف المصريون جيل الشباب المنخرط في النشاط السياسي بأنه “جيل معلب”، يفتقر إلى المواهب التي تمكنه من كسب حضور ملموس في الشارع، ويعتمد على ما يقدمه من مزايا عينية وفرتها له الحكومة لدغدغة مشاعر المواطنين، ويحصر حركته في كل النواحي البعيدة عن الأمور السياسية الجادة.
وساعد هذا التوجه على المزيد من تشرذم الأحزاب، إذ ظهرت داخل عدد منها تجاذبات دارت بين الانسياق وراء التكتل الفضفاض والحصول على مزاياه وبين تفضيل الانصراف عن العمل العام، فالمناخ العام لن يساعد على تقديم رؤى تخالف الحكومة، ما أدى إلى الدخول في مرحلة حرجة من التآكل قد ترتد عيوبها على الحكومة.
المصريون يصفون جيل الشباب المنخرط في النشاط السياسي بأنه “جيل معلب”، يفتقر إلى المواهب التي تمكنه من كسب حضور ملموس في الشارع
ويدرك القائمون على التنسيقية ورعاتها في الخفاء هذه النتيجة، وربما سعوا للوصول إليها عبر سياسة الاستقطاب التي تمارس لجذب نخب شبابية وتفريغ الأحزاب منها، حتى تصل إلى تلاشي الكيان الحزبي، فالحكومة لا تستطيع بجرة قلم شطب هذا العدد الكبير من الأحزاب، ووجدت في الموت إكلينيكيا وسيلة تبعدها عن تحمل المسؤولية.
ويفضي قتل الأحزاب السياسية أو تجميدها إلى المزيد من سيطرة التنسيقية على مساحة في الفضاء العام، أو على الأقل شغلها بالضجيج، لأن تركها يمثل خطرا من ناحية سعي بعض القوى الإسلاموية لملء الفراغ ومن ناحية تأكيد الاتهامات الرائجة في وسائل الإعلام الغربية بشأن التضييق الممنهج على الأحزاب السياسية.
ويعتبر خبراء أن الحالة التي تعيشها مصر غير مسبوقة، فلا هي أنشأت كيانا على غرار الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لتقديم النخب الواعية بالتحديات، ولا هي قدمت كيانا حزبيا مثل الحزب الوطني الديمقراطي في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك الذي أجبر على القبول بأحزاب تعارض تصرفات حكوماته.
وأسقطت هذه الصفة التعددية التي حاول الرئيس الراحل أنور السادات التمسك بها للإيحاء بأن هناك حراكا في البيئة المصرية، لذلك ففرص نجاح تنسيقية الشباب ضئيلة لأنها رسمت لنفسها خطا لا يسمح بوجود قوى على يمينها أو يسارها.
وجعلت هذه المشكلة شرائح عديدة من الشباب تضع لنفسها خطا ساخنا على مواقع التواصل الاجتماعي تكتفي فيه بالتعبير عن شجونها السياسية وآلامها الاقتصادية وأزماتها المجتمعية، وبدت تحظى بمتابعة تؤثر سلبا على ما تقدمه التنسيقية.
وتدرك الحكومة هذه المفارقات منذ بداية تجربة حزب مستقبل وطن، وهو ما جعلها تقدم كل أنواع الدعم للتنسيقية دون أن تعلن أنها ظهيرها السياسي، وأصبحت رقما مهما في اللقاءات والمؤتمرات والندوات التي تشرف عليها مؤسسة الرئاسة ولا تتم الإشارة إلى أنها مظلة الرئيس السياسية الوحيدة.
وتكمن الأزمة -التي يمكن أن تنفجر في وجه الحكومة لاحقا- في أن تنسيقية الشباب تجاوزت كونها كيانا معنيا بالأمور السياسية وتعمل على إنشاء قاموس خاص بعيد عن ذلك، يوحي في مجمله بأن السياسة مضيعة للوقت، ومن الضروري أن يهتم الناس بحياتهم الاقتصادية والاجتماعية، فهناك طبقة مسؤولة عن إدارتهم السياسية وتتولى صياغتها بالطريقة التي تريدها.
ويشير متابعون إلى أن ترهل الأحزاب يعد معضلة إذا اضطرت الحكومة إلى القيام بإصلاحات سياسية تحت وابل من الضغوط الأميركية، ففي هذه الحالة سوف تنعدم قدرة ما تبقى من الأحزاب المصرية على مسايرة هذه الموجة، كما أن فكرة تحويل التنسيقية إلى موالاة ومعارضة في آن واحد لن تنطلي على أحد.