هيثم الزبيدي يواصل حضوره رغم الرحيل

كلّما جلست إلى المكتب وجدتني أتهيأ لرسالة قد تأتي منه. الحضور لا يتوقّف عند الغياب. ثمّة من يترك خلفه ما يكفي كي نواصل الحديث معه حتى بعد أن يُغلق هاتفه إلى الأبد.
الأحد 2025/05/25
رحل مَن جعل من الصحافة بيتاً لا إدارة

ما الذي يُقال حين يرحل صديق مثل الدكتور هيثم الزبيدي من مشهد الحياة بصمتٍ لا يشبه ضجيج المغادرين، بصبرِ مَن خبر الألم وتعلّم كيف يدجّنه، لا أن يصرخ منه؟ كيف نرثي رجلاً كان يصرّ على أن يبدو بخير، حتى حين تتفتّت الأيام داخله؟ كيف نكتب رجلاً كتب نفسه بين الكلمات، وزرع ملامحه بين جدران مؤسّسة كاملة، ثم رحل خفيفاً، كما لو لم يرد أن يثقل على أحد، حتى بالفقد؟

لم يتعامل الراحل هيثم الزبيدي كمدير ولا رئيس ولا بصفته التي تُلحق باسمه في رئاسة الصحيفة، إنّما كان صديقاً بملامح أخٍ أكبر، بمزاجٍ لا يشبه مزاج الإداريين المعتادين. فيه من كرم المعشر ما يسبقك إليه، ومن وفاء الرفقة ما يفيض عن حدود الوظيفة والزمالة. رجلٌ غير مأخوذ بالمناصب، ولا مولع بالظهور. يَظهر عندما يحتاج الآخرون إلى من يُنصت، ثم يتوارى كما لو أنّ الحضور ليس إلا عبئاً على من يبالغون في الكلام.

تعرفت إليه قبل سنوات، حين أعاد تأسيس وإطلاق صحيفة “العرب” من لندن، وكنت أكتب زاويتي الأسبوعية في القسم الثقافي. وقتها كان قد بدأ يعيد ترتيب العلاقة بين السياسة والثقافة، ويصوغ مع الصديق الشاعر نوري الجرّاح ملامح مشروعٍ يرى أنّ الكلمة حين تكون صادقة، تُقيم وزنها بذاتها.

كان الراحل هيثم الزبيدي دقيقاً في قراءته، واسع الأفق، يتابع المقالات والملفّات الثقافية بتأنٍ قلّ نظيره، يُرسل تعليقاً هنا، أو يفتح أفقاً هناك. ثم تعمّقت علاقتي به حين أطلق مجلة “الجديد” عام 2014، وأتيح لي أن أرى فيه ما هو أعمق من صورته الرسمية؛ مثقفٌ نادر لا يُحبّ الاستعراض، قارئٌ نَهِمٌ للتاريخ والسينما والأدب، مُتابع شغوف بالتحولات السياسية والفكرية، لا يُفصح كثيراً عمّا يعرف، لكنك إن حاورتَه وجدته يزن كلّ مرجع، ويتذكّر كل تفصيلة وكأنّها طازجة من قراءته بالأمس.

كان دعمه لي ولغيري من الكتّاب دعماً قويّاً يُشبه تلك اليد التي تُسندك دون أن تُمسك بك. وكان في اللحظات التي تتعطّل فيها الحماسة، يعرف كيف يبعث فيها حياة جديدة، بلا إلحاح، وبلا خطابيات. يرسل ملاحظة صغيرة “نصّك اليوم كان مؤلماً،” أو “ذكّرني سطرك الأخير بحالة نعرفها،” وكأنّه يكتفي بالهمس كي يوقظ فيك الرغبة في الاستمرار. في أوائل عام 2018، انتقلت إلى العمل في مؤسسة “العرب”، وهناك عرفته عن قربٍ أكثر. لم يكن يوماً مديراً بالمعنى الإداري الضاغط، إنّما كان شريكاً في الهمّ، وصديقاً يعرف كيف يصنع من المكتب مكاناً للتفكير لا للرقابة، للبسمة لا للتوتّر. كانت روحه المرحة سلاحه الخفيّ. حسّ دعابته حقيقيّ، لا متكلّف، لا يطلب الضحك بل يستدعيه تلقائياً. في أصعب اللحظات، كان يعرف كيف يلتقط السخرية من قلب المعاناة، كما لو أنّه يعيد ترتيب الألم ليبدو قابلاً للاحتمال.

◄ الراحل هيثم الزبيدي لم يتعامل كمدير ولا رئيس ولا بصفته التي تُلحق باسمه في رئاسة الصحيفة، إنّما كان صديقاً بملامح أخٍ أكبر، بمزاجٍ لا يشبه مزاج الإداريين المعتادين

منذ فترة قصيرة، قبل حوالي شهر فقط، التقينا في لندن، وتمشّينا قليلاً. كان وجهه يحمل آثار العذابات، وكانت خطواته أبطأ ممّا اعتدته فيه. لكنّه، كعادته، لم يتكلّم عن وجعه. لم يشكُ، لم يُظهر سوى ما يريد لنا أن نراه؛ أنّه بخير، أو يحاول أن يكون. تحدثنا عن بعض الأخبار والمستجدّات والمشاريع القادمة، وعن جديد الكتابة والقراءة والنشر، وبدا كأنّه يُخفي المرض داخل جيب سترته. كنت أعرف أنّه يتألم، لكنّه اختار أن يتألم وحده، أن يُجامل الحياة قليلاً، ويبدو قويّاً لمن حوله. تلك كانت إحدى فضائله: ألّا يجعل من ألمه ثِقلاً على الآخرين.

واصل الكتابة حتى الرمق الأخير، وكأنّه يفاوض جسده على الاستمرار. لم يتخلّ عن نصوصه، ولا عن مسؤولياته اليومية في الصحيفة، ولم يُرد أن يتوقّف في منتصف الطريق. اختار أن يتعايش مع الألم كما لو أنّه زميل عنيد في غرفة التحرير، يزعجه لكنّه لا يطرده. كان رجلاً يُحبّ النظام، ويُدرك أنّ الكتابة، مثل الحزن، تحتاج إلى تقويم ومواعيد.

رحل الدكتور هيثم الزبيدي، ومن خلفه مئات التفاصيل التي لم تُروَ بعد. رحل مَن جعل من الصحافة بيتاً لا إدارة، ومن الثقافة التزاماً لا مجاملة، ومن الصداقة طريقاً لا مناسبة. سيظلّ حيّاً في ذاكرة الذين عرفوه عن قرب، وفي كلّ من كتب له كلمة شكر، أو أرسل له نصاً ووجده منشوراً دون تدخّل أو مساومة.

الآن، وقد ارتحل الدكتور هيثم إلى غيابه الأخير، لا أملك سوى أن أستعيد خطواتنا معاً في شوارع لندن. كان يمشي بتؤدة، بصمتٍ لا يشي بما يعانيه. كنت أعرف، وكان يعرف أنني أعرف، لكنّنا كنا نتواطأ معاً على تجاهل الألم، نؤجّل الحديث عنه، ونمضي كما لو أنّ للزمن متّسعاً إضافياً. لم يكن يودّع، لم يكن يقول أشياءه الأخيرة، لأنه لم يكن يؤمن بـ”الأخيرة”.

الصديق هيثم الزبيدي يواصل حضوره رغم الرحيل والغياب. ولا أقول ذلك على سبيل التخفيف، ولا بحثاً عن عزاء لغويّ في وجه الفقد. ما أقصده هو ذاك الشكل الخاص من الحضور الذي لا يعتمد على الجسد، ولا يحتاج إلى صوت يُعلن وجوده. شيء يشبه ما تبقّى من الخطى بعد أن يمرّ صاحبها. ظلٌّ لا يزول من الذاكرة، نبرة تبقى في الأذن حتى بعد أن تنقطع الرسائل.

كلّما جلست إلى المكتب، وجدتني أتهيأ لرسالة قد تأتي منه، تعليق مقتضب على مقال، أو تنبيه هادئ على تفصيلة مرّت. والحضور لا يتوقّف عند الغياب. ثمّة من يترك خلفه ما يكفي كي نواصل الحديث معه، حتى بعد أن يُغلق هاتفه إلى الأبد.

وداعاً يا دكتور… لن أقول إنّك رحلت، فقط ابتعدت قليلاً، لتتيح لنا أن نشتاق إليك كما يليق بك.

7