هناك فهم خاطئ لدور المثقف والمفكر في التعاطي مع الواقع

ترتبط علاقة الفرد بالمجتمع منذ نشأتها الأولى بعد انضمام الفرد إلى فرد آخر بآليات ذات طبيعة ثقافية اجتماعية، تحيط الفرد بدرجة سلام يتوق إليها وهو بحاجتها من درجات الطمأنينة والأمان والاستقرار وديمومة العيش، فكانت أول فرصة لظهور صوت الفرد داخل فضاء سمعي بوجود آخر يتلقاه ويمكن أن يكون صدى إيجابيا له، ومن هنا نشأت ثنائية الصوت والصدى خارج فكرة الطبيعة الجامدة التي ترد الصوت على شكل صدى ناقص وهائم، لا بد من وجود “آخر” طبيعي أو إنساني يوفر للصوت فرصة الارتداد على شكل صدى، وإلا سيبقى الصوت تائها في المحيط والفضاء بلا قيمة.
لا قيمة لصوت الفرد إذن إن لم يكن له صدى اجتماعي ظاهر وبارز ومقصود، وإلا فإن الطبيعة بصخورها وكهوفها وجبالها ومظاهرها الطبيعية الأخرى سترد هذا الصوت على شكل صدى سلبي، يقضم الأجزاء الأخيرة منه ويعيده إلى صاحبه ناقصا وربما مشوها لا يفي بالغرض ولا يؤدي إلى نتيجة واضحة، لذا عملت الحضارات الحديثة على بناء صدى إيجابي مفيد ومنتج لصوت الفرد يعيد إليه صوته كاملا، ومصحوبا أحيانا بحمولات ثقافية تشجعه على التبلور والنضج والاستمرار والتطور والبسالة.
وكان مفهوم “الديمقراطية” أحد أبرز المفاهيم التي تعيد للصوت الفردي شخصيته وحضوره واستقلاليته وتأثيره، وهبت رياح الربيع العربي حاملة معها بذور الديمقراطية تبشيرا بعصر عربي جديد تختفي فيه النظم الشمولية ويعاد الاعتبار لصوت الفرد العربي، لكن هذه الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.
إشكالية النخب
الذات الفردية هي الذات الأصل في الحياة إذ بدأ الكون على هذه الأرض فردا، ومن ثم تعدد الأفراد عن طريق التزاوج والولادات وتشكلت ذات جمعية من مجموع الذوات الفردية، وبمجموع الذوات الجمعية تتشكل نواة الدول والحضارات والبشرية التي تعطي للحياة معنى، وإذا ما أردنا خير الحياة بتجلياتها الاجتماعية والثقافية فلا بد من العناية الشديدة بصوت الفرد بلا مواربة ولا حيلة ولا شعارات، فمنه تبدأ أصوات الحياة الأخرى بالنمو والتبلور والتشكل والصيرورة بحيث تنبني الحضارات الكبرى على أساس سلامة صوت الفرد واستقلاليته وحيويته، ولا حضارة مطلقا حين يغيب هذا الصوت ويمحي أو حين يضطهد ويغيب وتدوسه عجلات السياسة والتحزب والتدين والعنصرية والتكتل القبلي.
طبيعة النظم السياسية القاهرة للذات الفردية هي أكثر الأنظمة استبدادية وقهرا وظلما للروح الإنسانية النزيهة، وهي حين تنتهي وتموت فإنها تندثر وتتلقى اللعنات على مدى التاريخ لتكون علامة سوداء في جبين التاريخ أبدا، وهي النظم التي ما زالت تهيمن على الحياة السياسية في أغلب دول العالم الثالث، ولا تترك أي فرصة للتغيير لأنها تفرض سياقات تتوسل بالدين أو القومية لكبح جماح الصوت الفردي، وتضطره إما إلى الاستسلام، أو التصفية، أو الهجرة، كي يبقى الصدى الجمعي الديني أو الحزبي أو القبلي المنزل من السماء هو المرجعية الوحيدة لهذه المجتمعات المسكينة، وشعار هذا الصدى الوحيد والنهائي والحاسم “جئنا لنبقى ولن نسلمها لأحد” لأن لا أحد غيرنا كفيل بقيادة الشعب والأمة والتاريخ.
تعد إشكالية “النخب” واحدة من أكثر إشكاليات الحياة التباسا وتعقيدا وغموضا، ولاسيما في المجتمعات العربية الحديثة الصاعدة في سلم الحضارة لأجل اللحاق بركبها والانتماء إليها، فهي نخب معزولة وعاجزة وسلبية لا تقوى على الدخول في صميم الحراك الاجتماعي لمجتمعاتها والتأثير فيه على النحو المطلوب، لكنها على الرغم من الخيبات والعيش في المهاجر إلا أنها هي الأمل الوحيد مهما كان هذا الأمل ضئيلا وقليل الضوء.
حققت الحداثة وما بعدها على الصعيد النظري والمنهجي والرؤيوي والإجرائي كشوفات كبيرة منذ مطالع القرن العشرين تقريبا، وتحولت ثنائية الغرب والشرق التقليدية السابقة إلى ثنائية الشمال والجنوب، بحكم انبثاق حداثات جديدة عالية المستوى والتأثير من باطن الشرق مثل اليابان والصين وسنغافورة وماليزيا، وتلقفت الثقافة العربية هذه الحداثة واشتغلت عليها في مناح معينة وسعت إلى تعزيز إمكاناتها ذات الطبيعة المجتمعية ما وسعها ذلك، لكنها للأسف أخفقت إخفاقا ذريعا أساء حتى لمفهوم الحداثة نفسه، وتمخضت عما يمكن وصفه هنا بـ”إشكالية الحداثة الناقصة” التي لم تخضع للشروط الموضوعية الكفؤة لولادتها وسيرورتها النموذجية، وتشبثت بأسس ونظريات ومقولات وأطروحات يغلب عليها الطابع النظري الذي لا ظل له في الميدان العملي الإجرائي الحي.
لا شك في أن دور الثقافة والمثقفين والفكر والمفكرين والأدب والأدباء والفلسفة والفلاسفة في وسط جاهل ومتخلف ومذعن لا قيمة له ولا مستقبل، فالوسط الجاهل بيده كل مقاليد السلطة والقوة والمال والهيمنة المطلقة، يتسلح بالدين والقبيلة والتراث والأعراف ويسرق الوعي الجمعي ويستعمره ويكون وسائل دفاع غادرة ومميتة وساحقة، تشتغل بأعلى كفاءة ضد كل من يجرؤ على الاقتراب من هذا العرين المحمي بإمكانات هائلة وذخيرة لا تنفد.
وينبغي على هؤلاء الطليعيين التنويريين أن يتقدموا إلى المشهد بروح الشهادة وأداة الاستشهاد ومنطق التضحية، في دفاع مستميت ضد التخلف والقبح والرجعية والعسكرتاريا الميليشياوية البشعة بألوانها وأشكالها ونماذجها كلها، ولا أحد يعرف كم يحتاجون من الوقت كي يحققوا الانتصار الموعود الذي لا بد منه في نهاية الأمر، بعد دفع فاتورة غالية جدا لا بد منها أيضا.
◙ إشكالية "النخب" واحدة من أكثر إشكاليات الحياة التباسا وتعقيدا وغموضا، ولاسيما في المجتمعات العربية الحديثة الصاعدة
المرأة والبطل
لا بد أن نفهم الفرق بين علاقتين متشابهتين قد تثيران لبسا على مستوى المفهوم، الأولى علاقة “الفرد والجماعة” وهي علاقة سوية بوسعها أن تتمثل الرؤيات الحقيقية النابعة من جوهرها ومتطلباتها وحاجاتها، وتعمل عليها بروح سوسيوثقافية قادرة على التثمير والإنتاج والتطوير لصالح طرفي العلاقة، والثانية علاقة “الفرد والقطيع” وهي علاقة غير سوية تسم “المجتمع” بسمة قطيعية تبعية، تعطي للفرد دور الوصاية عليها ودور “الرعاية” بالمفهوم الرعوي العائد إلى مرحلة “الرعي”، التي ما زالت تهيمن على ثقافة الأنظمة الفردية الدكتاتورية إذ لا شيء يجري إلا “برعاية” السلطة، حيث يتبوأ القائد الفرد المقام الأعلى في هرم الدولة في حين يتضرع القطيع في ظله وهو يسبح بحمده ويشكر نعمه.
قد يتحول صوت الفرد إلى أعلى قدر من الاحتجاج على واقع يائس يفقد فيه أدنى درجات الأمل بالحصول على صدى إيجابي متمثلا بفكرة الانتحار، وهو تعبير واقعي حي عن خيار فردي ينكر القطيعية ولا يثق بالنخبة فيقع في دوامة تنتهي به إلى خنق صوته وإنهاء حياته، ومن المؤكد أن مشروع التغيير سيشهد جملة من هذه الانتحارات تقدم المزيد من الضحايا، لكنها تؤسس لدروس جديدة في إستراتيجية التغيير.
تتصدر المرأة قائمة الضحايا الأكثر قسوة في هذه المجتمعات الرجعية المتخلفة التي تتسلط على المرأة بوصفها الضحية الأكبر والأسهل، وتستخدم ضدها سيفا ذا حدين هما العرف: “العادات والتقاليد”، والدين: “الحلال والحرام”، فإما أن ترضخ وتذعن وتكون حاجة من حاجات بيت الرجل لا تعصي له أمرا ولا تخرج عن طوعه، وإلا فهي مارقة وكافرة وينبغي أن يقام عليها الحد مرتين، الحد الأول ذو طبيعة اجتماعية والحد الثاني ذو طبيعة دينية، بما يجعلنا نتيقن أنه لا مكان للمرأة المتحررة في المجتمعات العربية على الإطلاق، إذ كيف يمكن أن يكون لها مكان والرجل نفسه الذي يهيمن على كل شيء فيها لا يجرؤ على أن يجاهر برأيه، ويحسب ألف حساب حين يكتب كلمة واحدة، لذا يضطر إلى الهجرة كي يتكلم بما يريد.
وحتى هناك يبقى ملاحقا تناله سهام التكفير والتخوين والخروج على الطاعة، وما تلك الأصوات النسائية التي تخترق الحجب وتسعى إلى قول كلمتها بشجاعة سوى مفرقعات هائمة بلا صدى، ليست لديها قدرة التأثير في الجمهور النسائي العربي، بل على العكس تتعرض لهجمات شرسة من هذا الجمهور قبل الجمهور الذكوري القامع، لكنه لا بد منها في النهاية إذا ما أردنا أن نواصل مشروع التنوير على الرغم من كل صور الإحباط التي تحيط بنا.
تعد المرأة المتحررة والمثقفة الخارجة على سياسة القطيع كافرة وملحدة تنبغي ملاحقتها ومطاردتها حتى لا تخرب عقول الأجيال الجديدة، وهذه أبرز علامات التحدي والمقاومة التي يمكن أن تفتح السبيل نحو حياة حرة كريمة، يكون العقل فيها هو السيد المتحكم في قوانين الحركة والفعل والممارسة والإنتاج، غير أن هذه المرأة النبية في مجتمعاتنا العربية غالبا ما يعلو صوتها في وسط لا يساعدها كثيرا على توكيد نبوءتها، بما يحمل صوت الرجل الباحث عن التغيير مهمة مساندتها والإيمان بها بوصفها عنصرا أصيلا في التغيير، ودعمها كي تكون لها شخصية مستقلة بعيدا عن مرجعيات التفكير الذكوري الهش، ومنحها الدور الذي تستحق في قيادة المرحلة القادمة بأعلى درجات المسؤولية والثقة والحماس.
تخضع مجتمعاتنا العربية لسلطة الأبوية البطرياركية الطاغية بوتيرة متصاعدة على نحو يثير الاستغراب والعجب، فكل شعوب الأرض تتقدم في أجنداتها الثقافية والفكرية والإنسانية إلى الأمام ومجتمعاتنا تتراجع إلى الخلف، ثمة ردة حضارية مفجعة يعيشها العرب الآن بعيدة عن كل المعايير المعروفة في تاريخ حضارات العالم، نتحسر الآن على وضعنا في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي.
وكلما تقدم الزمن بنا صرنا أكثر جهلا وفقرا وعبودية وتوحشا وتنازلا عن الحقوق وامتهانا لكرامة المرأة وهدرا لحقوق الطفل. ينبغي أن نعيد توجيه القطار العربي بعكس اتجاه المستقبل كما تفعل قطارات العالم، لنعود إلى ماضينا الجميل كي ينقذنا من إرهاب الحاضر وضياع المستقبل ووحشته وغموضه وبؤسه، فهذا القطار الذي نستقله الآن ذاهب بنا إلى الهاوية التي لا هاوية بعدها.
لعل أبرز مشكلات مجتمعاتنا العربية هي الإيمان المطلق بالبطل المخلص الضرورة المساوي للوطن الذي يتحول بمرور الزمن إلى بديل للوطن، أو حتى أهم من الوطن، وهذا البطل إنما هو وريث الأصنام التي ما زلنا نعبدها في سرنا، لا يمكن للعربي أن ينام مرتاح البال وسعيد السريرة من دون الاطمئنان على صنمه الماثل في كل شيء فيه، ولعل مرحلة الجاهلية الأولى التي كانت تعبد الأصنام أفضل حالا منا الآن، إذ هم كانوا في بعض الأحيان يصنعون أصنامهم من التمر وحين يجوعون يأكلونها فتكون منقذة ومفيدة، لكن أصنامنا تأكلنا دائما حين تجوع وحين لا تجوع أيضا.
الفرد والمواطنة
ثمة إشكالية أخرى تتعلق بثنائية “الفرد والمواطنة” وكيف يمكن أن يكون صوت الفرد حين يشعر حقا بروح المواطنة، أو حين لا يشعر بها مطلقا، فصوت الفرد حين يؤمن نفسه تحت خيمة المواطنة هو صوت هادئ وموضوعي ومؤثر في السياق العام الذي يتحرك فيه، في حين يكون صوته مرتبكا ومتوترا وعنيفا وصاعقا عندما يشعر أنه خارج هذه الخيمة وليس من أحد يحميه، فالشعور بالحماية والاطمئنان لحضورها في الوقت المناسب على المستويات الإنسانية كلها هو الدليل الحي على فعالية المواطَنَة.
يتفوق تاريخ الانقلابات في الوطن العربي على الكثير من بلدان العالم الثالث، وكل انقلاب منها يسمي فعله “ثورة” تمهيدا لإيهام الجمهور بأن الأمل بالتغيير قادم، لكن ما يحصل في كل مرة يقتصر على “تغيير الأنظمة” ولا يفكر أحد قادة هذه الانقلابات بتغيير الشعوب، لأن تغيير الشعوب كفيل بإزاحتهم ونبذهم وكنسهم خارج التاريخ، تبدأ مشاريعهم بأحزاب وكيانات سياسية ثم تنتهي إلى أفراد “أبطال” يكرسون شخصياتهم الفردية بديلا عن أحزابهم وكياناتهم، كي يحكموا شعوبهم بالنار والحديد باسم الثورة والوصاية على الأرض والسماء بتكليف من الإله لا يقبل النقاش ويأمر بالتنفيذ الأعمى.
دور الثقافة والمثقفين والفكر والمفكرين والأدب والأدباء والفلسفة والفلاسفة في وسط جاهل ومتخلف ومذعن لا قيمة له
يعاني المفكر الفرد في الثقافة العربية الحديثة من شبكة من المشكلات المعقدة التي لا يمكن حلها بسهولة، قد يكون بعضها بسبب الفهم الخاطئ لدور المثقف المفكر الفرد في التعاطي مع الواقع العربي الملتبس والغامض، على صعيد المفاهيم والمصطلحات والتعريفات والرؤيات والقيم والتاريخ والتراث والحداثة وكل شيء تقريبا، إذ تعاني الثقافة العربية من حالة فصام عميقة الجذور بين طبقة النظرية وطبقة الإجراء، فقد أسهم التصور الديني الخاطئ للأشياء بمحو شخصية الفرد المفكر وحصرها برجل الدين أو الفقيه، وصارت أي مراجعة ضرورية لمقاربة المفاهيم المركزية ضربا من الكفر والجنون والتجديف قد يودي بصاحبها إلى التهلكة، فنشأ نوع من الإرهاب الفكري الذي يمحو شخصية الفرد الحر ويفرض عليه أن يكون رقما في كتلة القطيع لا يحمل أي خصوصية أو ملامح أو صفات.
يشكل الطرف الثاني من العملية متمثلا بـ”ساحة التلقي” مفصلا مهما من مفاصل النظر في عمق هذه المشكلات وخطورتها، ففي ظل جموع مقهورة غير معنية بالفكر قدر عنايتها بالخبز لا يمكن توقع نمو وتداول واستثمار حقيقي للفكر، ولا مكان للفرد المفكر في منصة القيادة لأنه مثل عازف مجنون يقدم معزوفاته للريح.
ولم تعد ثمة فرص كثيرة أمام المتلقي كي يتسلم شحنات إيجابية باتجاه الحصول على النصوص الكبرى التي تنقذه من الجحيم، فصارت ساحة التلقي هي ساحة الموت التي تنكسر عليها الأحلام على نحو يحمل الطليعة المثقفة مهام تفوق طاقتها، فتؤول بها إما إلى الانسحاب أو الانتحار أو الاستشهاد، ومع كل هذه الاحتمالات المتشائمة تبقى نقطة ضوء ضئيلة في نهاية النفق تعول عليها ساحة التلقي بانتظار شمس مختلفة ومغايرة تشرق على الأرض العربية في يوم قادم لا ريب فيه ولا تغيب.
• ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية