هل يمكن أن تكون التقنية في الفن بديلة عن الموهبة

اللجوء إلى التقنيات الحديثة في الفن التشكيلي بقدر ما ساعد الفنان المُتمكن على خلق حالة من حالات الجمال ساهم أيضا في إنتاج أعمال غير جيدة.
الخميس 2018/05/31
هل يتخلى التشكيليون عن الريشة

وضعت التقنيات الحديثة في مجال الفنون التشكيلية المعايير القديمة للإبداع الفني موضع مساءلة وتشكيك بعدما تمكّن الفنانون من إنتاج أعمال فنيّة مميّزة باستخدام الكمبيوتر وبرامجه المختلفة، خصوصًا مع ظهور أجيال فنيّة جديدة تعتمد بشكل شبه كلي على استخدام هذه التقنيات، فيما ظل النقد متخبطا بين رفض تام للاعتراف بفنيّة الأعمال التشكيلية الرقميّة وبين ضرورة إفراز آليات جديدة للنظر في جماليات وإيجابيات مثل هذه الأعمال التي استجابت لتطورات فرضتها عجلة التقدّم في العالم.

ومع أن ثمة تطورات حتمية لا يمكن غض الطرف عنها أو رفضها خاصة وأنها صارت تُشكِّل منحى جديدًا له أسسه ومؤسسوه، ورغم ما يثار عن سلبيات مثل تلك التوجهات من إنتاج أعمال ضعيفة من قبل فنانين ليس لديهم الحس الفني الكافي أو الموهبة الحقيقية ما يوقعهم في مأزق الاستجابة لمتطلبات الآلة دون الفن، رغم هذا إلا أن الاتجاه نحو حسن استغلال ذلك التطور في أعمال فنية مائزة بات من الضرورات التي لا ينبغي الحياد عنها وتحتاج إلى جهد نقدي لمواكبتها وتصحيح مسار الضعيف منها.

 

تخللت التطورات التكنولوجية كافة مناحي الحياة، وباتت المناقشات حول مستقبل الأشكال التقليدية في ظل الثورة التكنولوجية قائمة في كل المجالات الفنية. ولم يكن الفن التشكيلي بمنأى عن التأثر بتلك التغيّرات التي صنعتها الثورة الرقمية؛ فظهرت العديد من الأعمال التشكيلية والكثير من الأجيال الفنيّة التي تعتمد على التقنيات الحديثة في أعمالها الفنيّة، فيما ظل العديد من “حرس الفنانين القدامى” ينظرون بالكثير من الريبة إلى هذه الأعمال الجديدة ويعلنون رفضهم اللجوء إليها لما فيها من تهديد لمهارات الفنان الإبداعية

هل يمكن أن تكون التقنية بديلا عن حس الفنان وبراعته الفنية؟ هل يقضي استخدام التقنيات الحديثة في مجال الفنون على خصوصية عملية الخلق الفني لدى الفنان في تفاعله مع اللوحة؟ وهل يمكن اعتبار الأعمال المستفيدة من التكنولوجيا أقل فنيّة من نظيرتها التي تعتمد على خطوط الفنان على اللوحة دون تدخل تقني؟ “العرب” توجهت بالأسئلة إلى عدد من الفنانين والنقاد لقراءة تأثير التقنيات الحديثة على الفن التشكيلي في الوقت الراهن.

تطور الفنون

الفنان والناقد المصري خالد هنو ينوه بأن التقدم العلمي والاكتشافات الحديثة ساهما بشكل كبير في تطور الفنون بداية من شكلها البسيط في الفن البدائي حيث لم يكن متاحا وقتها إلا بعض الصبغات والزيوت الطبيعية، حتى الوصول إلى الشكل الحالي من التنوع الشديد في الإبداع بمدارس الفن المختلفة لفنون ما بعد الحداثة، ومن ثم صارت التقنيات جزءا من هذا التطور ووسيلة جديدة للإبداع؛ فبعدما كان الفنان يملك أنواعا محددة من الخامات ليعبر عن رؤيته أصبحت لديه إمكانيات أكثر، ومن هنا جاءت عبقرية دافنشي والكثير من فناني عصر النهضة الذين كانوا يصنعون ألوانهم وأدواتهم بأنفسهم فيجدون صعوبة كبيرة في الحصول على درجات لونية ومع ذلك استطاعوا أن يحدثوا ثورة فنية ويقدموا رؤية جديدة مغايرة تماما لفنون العصر القوتي والبيزنطي.

يرى هنو أن فناني الحداثة استفادوا كثيرًا من هذا التطور التقني، فظهرت فنون ومدارس اعتمدت على هذا التطور، كفن الديجتال آرت والفيديو آرت والفن الأدائي، وكلها فنون مقبولة لأنها مجرد أدوات يحركها الفنان، فما الفرق بين عمل فني استخدم الفنان فيه الألوان والكانفس وبين آخر استخدم الفنان فيه برنامجًا على الكمبيوتر؟ لا فرق بين الاثنين إلا في الفكر والإبداع الذي يحرك الفرشاة أو الماوس.

يتابع “الأمر يشبه كثيرًا ما حدث في الموسيقى من تطور في الآلات، حيث كانت فرقة أم كلثوم تعتمد عل التخت الشرقي بصورته البسيطة؛ عود وكمان وقانون وإيقاع وناي ثم أدخلت شيئًا فشيئًا آلات جديدة مثل الساكس والأكورديون والغيتار، ومع ذلك لم تقلّ القيمة الفنية للأغنية، بل بالعكس كانت في أروع حالاتها وذلك بفضل الاستخدام الجيد لهذه الآلات”.

يستدرك هنو “قد تُسبب التقنيات الحديثة بعض السلبيات إذا استخدمها البعض خطأ فتتحول إلى نوع من التشويه والعبث الفني، وهو ما يقوم به البعض من الذين يستسهلون الأمر لعدم فهمهم أو عدم تمكنهم من أدواتهم”.

من جانبه يوضح الناقد التشكيلي سمير غريب أن ثمة جوانب إيجابية أضفتها التكنولوجيا الحديثة على مجال الفنون التشكيلية يأتي على رأسها توسيع مجالات التعبير الفني واستخدام الفن، وتقديم ابتكارات جديدة في الفنون عمومًا. رغم تلك المميزات يمكن الحديث عن عدد من السلبيات، منها التغطية على ضعف الموهبة لدى الكثير من الفنانين الذين يجيدون استخدام التكنولوجيا واستغلال التقنيات الحديثة لكنهم لا يجيدون الفن نفسه، ومن ثم ينتجون أعمالًا ضعيفة فنيًا. أما استخدام الفنان الموهوب للتكنولوجيا فلا يمثّل مشكلة لأنه سيطوعها لخدمة موهبته وفنه”.

يستطرد غريب “معظم الشباب في الوقت الحالي يعتمدون على استخدام التكنولوجيا في أعمالهم الفنية ومن ثم فاللوحة التشكيلية في شكلها التقليدي المرسوم يقل وجودها تدريجيًا خصوصًا لدى الشباب، كما أن هناك جانبًا آخر سلبيًا لاستخدام التكنولوجيا في الفن التشكيلي يمكن ملاحظته في مساهمة استخدام التقنيات الحديثة في إضعاف علاقة الجمهور بالفن التشكيلي بأشكاله المعروفة”.

وينوه الناقد التشكيلي إلى أن المعايير المستخدمة في الحكم على الأعمال التشكيلية المعتمدة على التكنولوجيا تختلف عن معايير الحكم على اللوحة التقليدية، ومن ثم فعلى الناقد أن يطوِّر أدواته لملاحقة الابتكارات والاتجاهات الجديدة في الفن.

فنانو الحداثة استفادوا كثيرًا من هذا التطور التقني، فظهرت فنون ومدارس اعتمدت على هذا التطور، كفن الديجتال آرت والفيديو آرت والفن الأدائي

تجديد ولكن..

الفنانة التشكيلية تبارك الياسين تقول “لكل عصر أدواته وتقنياته في العمل الفني ولا يؤثر هذا على أصالة العمل الفني طالما الفنان لديه حس الفن الأصيل. قد تساعد التقنيات على إنجاز العمل الفني ولكن الأهم هو حس الابتكار والتجديد لدى الفنان، وقدرته على استخدام التقنيات التي لم تعد حصرًا على الألوان الزيتية والتنر والإكريليك وغيرها فلجأ إلى التقنيات الحديثة في مجال التكوين أو اللون أو المساحات أو الخطوط أو غيرها من مقومات العمل الفني التي تحرر الفنان فينطلق ليبتكر ويجدد في فضائه الخاص”.

أما الفنان التشكيلي مجاهد العزب فيلفت إلى أن استخدام التقنيات الحديثة في مجال الفنون التشكيلية يختلف عن استخدامها في مجالات فنية أخرى كالسينما؛ فبينما أدى استخدام هذه التقنيات في السينما على نحو واسع إلى إثراء الفن السينمائي وتطوره، لم تكن الحالة مماثلة في الفن التشكيلي رغم أنه يمكن النظر إليها باعتبارها أداة فنية شأنها في ذلك شأن الفرشاة أو القلم. لكن ثمة علاقة خاصة بين الفنان ولوحته، حالة من العشق الخاص قد تتأثر وتؤثر على حرفية الفنان وقدرته على الإبداع حال الاعتماد على التكنولوجيا في إنتاج فنه.

يُبيّن العزب أن اللجوء إلى التقنيات الحديثة في الفن التشكيلي بقدر ما ساعد الفنان المُتمكن على خلق حالة من حالات الجمال وتقدير النسب الجمالية في عمله الفني، ساهم أيضا في إنتاج أعمال غير جيدة لأشخاص تنقصهم الموهبة، مشيرًا إلى أن اللوحة الفنية ذات العمر الطويل لها مواصفات خاصة قلما تتحقق دون علاقة خاصة تربطها بالفنان لأنها حالة منفردة لا يتم تكرارها أو نسخها مثلما هو الحال مع استخدام الكمبيوتر وبرامجه.

15