هل يمثل انهيار العملة الضربة القاضية للصحف التركية

لا يعد العمل في قطاع الصحافة والنشر في تركيا أمرا سهلا على الإطلاق، كما أن الانخفاض الكبير الذي شهدته الليرة التركية في هذا العام زاد من الصعوبات التي يواجهها هذا القطاع. وفضلا عن التحديات المستعصية المتمثلة في تراجع عدد القراء، والمعركة التي تخوضها الصحف مع مقص الرقيب والخوف المستمر من سجن الكتاب، تواجه الصحف والمنشورات الآن التحدي المتمثل في عدم قدرتها على تحمّل كلفة الورق.
وقد اضطر قطاع النشر والصحافة في تركيا إلى استيراد الورق الذي يستخدمه منذ عام 2005، وتمت خصخصة أول شركة ورق في تركيا، وهي شركة “سيكا” في عام 1998. وبعد أقل من عقد من الزمان تم إغلاقها بحجة أن شراء الورق من الخارج أرخص من الحصول عليه محليا، ولهذا السبب يتأثر سوق الورق بشكل كبير بسعر الصرف الأجنبي، وتتم جميع المعاملات بالدولار أو اليورو، مما يضع قطاع الصحافة والنشر تحت رحمة تقلبات أسعار الصرف.
وقد خسرت الليرة التركية في الشهر الماضي نسبة 30 في المئة من قيمتها، ولم يؤد ذلك إلى إضعاف القوة الشرائية لشركات المنشورات فحسب، بل أدى أيضا إلى ارتفاع أسعار الورق بشكل كبير، وفي أقل من عام تضاعف سعر الورق المستخدم في أغلفة الكتب تقريبا، وارتفع لب الورق عالي الجودة المستخدم في الكتب المدرسية بنسبة 130 في المئة، كما ارتفع سعر ورق الكتب العادي بنسبة 60 في المئة تقريبا. ووفقا لمعهد الإحصاء التركي، يعد الورق أحد العناصر الثلاثة التي ارتفعت أسعارها أكثر من غيرها في هذا العام.
◄ معاناة قطاع النشر هو جزء من ميراث الحكومة المتمثل في تدمير وإهمال الركائز الثقافية للأمة، وقد شنت الحكومة هجوما على من يقرأ الكتب ومن يكتبها والقطاعات الصناعية التي تطبعها
وكانت الصحف تكافح للبقاء على الساحة لأسباب مختلفة، ولكن من المتوقع أن يكون الارتفاع التصاعدي في أسعار الورق بمثابة المسمار الأخير في نعش العديد من الصحف والمنشورات، وقد قال رئيس اتحاد الصحافيين في تركيا يلمز كاراجا “إن الصحافة المحلية ستعاني أكثر من غيرها”، مقدرا أن 100 صحيفة ستغلق أبوابها خلال عام 2021.
وقد أشار تقرير الربع الثالث لجمعية الصحافيين التركية إلى أن الصحف في السنوات الست الماضية فقدت نصف قرائها تقريبا، وعلاوة على ذلك، سجلت الصحف والمجلات أدنى أرقام توزيع لها في عام 2021 مقارنة بأي عام في العقدين الماضيين.
وبالإضافة إلى تحول الجماهير على الصعيد العالمي من الطباعة الورقية إلى النسخة الرقمية وانخفاض عائدات الإعلانات، فقد واجهت تركيا مشكلة أخرى، وهي فقدان العديد من مؤسساتها الإخبارية لعنصر المصداقية.
وشيئا فشيئا بدأت تفقد الصحف التركية مصداقيتها كمصدر موثوق للمعلومات، وبيع المزيد والمزيد من المؤسسات الإخبارية لشركات مقربة من الحكومة، وتحولت تلك الصحف إلى أبواق تمجد ملاكها. ومن المحزن مشاهدة التدهور الهيكلي لقطاع الصحافة والنشر ورؤيته يتهاوى ويندثر ببطء، وترزح الصحف القليلة المتبقية والمحافظة على نزاهتها وقيمها الصحافية تحت خطر الانقراض.
وعندما تم إطلاق المجلة الرياضية “سقراط” في عام 2015، أصبحت أحد المنشورات التركية القليلة التي استطاعت التوسع إلى ما وراء الحدود، لكن رئيس تحريرها كانر إيلر يشعر بالقلق الآن، حيث قال مؤخرا على منصة تويتر إن المجلة “كانت تخزن أكواما من الورق لتتمكن من ضمان نشر المجلة في الأشهر الستة المقبلة”، ومن يدري ماذا سيحدث بعد ذلك.
ويصر هالوك هيبكون، وهو مالك دار نشر “القطة الحمراء”، على وجوب زيادة أسعار الكتب، “ليس لجني الأرباح، ولكن لتجنب الخسائر”، فالكتب التي تباع حاليا مقابل 20 إلى 30 ليرة يجب أن يرتفع سعرها إلى 80 ليرة، وعلى الرغم من أن على الناشرين عمل ذلك من أجل البقاء في الساحة، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان القراء سيدفعون المزيد من أجل تلك المطبوعات.
وقد أرجأ الناشرون رفع أسعارهم حتى الآن لأن تكلفة نشر الكتب غير واضحة، وكما يوضح إليف أكايا الذي يعمل في منصب رئيس تعاونية الناشرين التركية، حيث قال “لا يقتصر الأمر على تضاعف تكلفة الورق فحسب، بل إن تكلفة الطباعة تضاعفت أيضا مع استمرار ارتفاع أسعار المواد مثل الحبر والطابعات، وتوجد تكهنات بأن هذه الأسعار قد تتضاعف ثلاث مرات في العام الجديد”.
ومع كل ذلك، تبقى المصاريف الأكثر إشكالية هي الورق، حيث يقول كنان كوكاتورك، وهو رئيس جمعية الناشرين الأتراك، “إن العثور على ورق للطباعة قد لا يكون ممكنا في المستقبل القريب”، ولهذا السبب يستخدم الناشرون الأوراق التي بحوزتهم بعناية وتتم حاليا طباعة الكتب التي تعتبر الأكثر أهمية فقط.
◄ سوق الورق يتأثر بشكل كبير بسعر الصرف الأجنبي، وتتم جميع المعاملات بالدولار أو اليورو، مما يضع قطاع الصحافة والنشر تحت رحمة تقلبات أسعار الصرف
وتركز السياسة الاقتصادية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية الحاكم على توفير العمالة الرخيصة وتشجيع الإنتاج للشركات القائمة على التصدير إلى خارج تركيا، ولا تأخذ تلك السياسة في عين الاعتبار العديد من الصناعات التي ستتعثر، لأنها لم تعد قادرة على استيراد ما تحتاجه من مواد.
إن معاناة قطاع النشر هو جزء من ميراث الحكومة المتمثل في تدمير وإهمال الركائز الثقافية للأمة، وقد شنت الحكومة هجوما على من يقرأ الكتب ومن يكتبها والقطاعات الصناعية التي تطبعها.
وبالنسبة لأولئك الذين يعملون في صناعة الكلمات وطباعتها، فإن تركيا تعد بمستقبل حافل بالصعاب، فكيف لقطاع النشر دعم الكتّاب الأتراك؟ وكيف يمكن للمناخ الحالي تمهيد الطريق للكتّاب الشباب الجدد ومساعدتهم على الظهور؟ وهل سيشعر أي شخص بالميل نحو حرفة الكتابة، ناهيك عن اتخاذها كمسار لحياته؟
ينتظر قطاعَ النشر في تركيا مستقبل قاتم، حيث لن يتمكن القارئ من الشراء ولن يتمكن الناشر من الطباعة، لكن الوضع الأكثر قتامة ينتظر أولئك الذين يسعون إلى أن يصبحوا كتابا.