هل يتقاعد الأديب؟

انتظار الموت لا يقلّ قسوة عن الموت نفسه، وربّما هو أشدّ تأثيراً على المبدع الذي أمضى عقوداً من حياته في عالمه الأثير الذي استقى منه معانيه وصاغ له وجوده نفسه.
الاثنين 2018/06/04
الروائي الأميركي فيليب روث أعلن التقاعد واعتزال الكتابة

جدّد رحيل الروائي الأميركي فيليب روث (1933 2018-) الحديث الذي كان قد أثاره بإعلانه التقاعد واعتزال الكتابة قبل حوالي خمس سنوات، عن قدرة الأديب والمبدع على اعتزال الكتابة والتقاعد وإكمال حياته المتبقّية بعيداً عن الغوص في هموم الكتابة ومشقّاتها ولذائذها التي لا تخلو من إضناء وإجهاد.

هل يتقاعد الأديب؟ هل يتقاعد الفنّان؟ هل يتقاعد المبدع في عالم الفنّ والأدب؟ ألا يكون في إعلان التقاعد إقرار بالنهاية الحقيقيّة قبل الموت المادّي؟ أيّ جرأة يحملها الأديب وهو يصارع ليعلن اعتزال الكتابة والركون إلى راحة التقاعد المأمولة؟ هل يرتاح الأديب بإعلان تقاعده أم أنّه يفتح على نفسه بوّابات الصراع من أجل كبت الرغبة المضنية بالكتابة؟ هل المبدع موظّف كي يتقاعد؟

لا يتعلّق حديث الكتابة والإبداع بالعمل الوظيفي، سواء كان في صحيفة أو أية وسيلة إعلامية أخرى في عالم الكتابة والفن والأدب، بل يتعلّق بذاك العالم الحميميّ الخاصّ بالأديب ودائرة إبداعه واشتغاله.

لا يخفى أنّ أيّ نصّ أدبيّ يمرّ بعدّة مراحل قبل أن يرى النور، بدءاً من انبثاق الفكرة لدى صاحبها، أو في أعماقه وخياله، ومروراً بجميع مراحل الكتابة ومراجعة المسوّدات وقراءتها والحذف والاصطفاء، وصولاً إلى النشر، ومن ثمّ ما يتبع ذلك من قراءة ونقاش حول المكتوب.

وكلّ مرحلة من هذه المراحل تحمل في طيّاتها مشقّاتها ومتعها في الوقت نفسه، ومن شأنها إبقاء الأديب متأهّباً لأيّ مستجدّ قد يداهمه أو ينتابه، بحيث يبلور عالمه الإبداعيّ الخاصّ بالتوازي مع عالمه الواقعيّ.

بهذا المعنى تضفي الكتابة معنى على حياة الكاتب، وتبقي لديه جذوة الأمل متّقدة ليعمل على نصّه، يجاهد الصعاب ويتحدّى المشقّات ويقاوم مشاعر الإحباط واليأس التي قد تغافله، يبقى منشغلاً بنصّه من دون أن يفسح مجالاً لفكرة الموت كي تحاصره أو تُكئبه. وتراه حين يقرّر الاعتزال، يفرغ الساحة للانتظار كي يقيّده، ويحيله بطريقة لا شعورية إلى مترقّب للموت، أو ربّما متفرّغ لاستقباله بمعنى ما.

يحمل التقاعد المرهوب الجانب إقراراً بأنّ مشروع الكاتب قد اكتمل وأنّه لن يضيف إليه شيئاً، وعليه أن يواجه نفسه ويتوقّف عن التلاعب بصورته الإبداعية التي شكّلها عبر الزمن.

لعلّ من الجرأة بمكان إعلان أيّ كاتب هزيمته أمام العمر، أمام الزمن، وأنّه لا أحد منتصراً في حرب الإنسان وسباقه مع الزمن، وأن الشيخوخة لا ترحم، وعلى المرء الرضوخ لإملاءاتها واستحقاقاتها وفروضها وقيودها. لكن ألا يفتح إعلان الاعتزال الباب أمام فراغ قاتل!

انتظار الموت لا يقلّ قسوة عن الموت نفسه، وربّما هو أشدّ تأثيراً على المبدع الذي أمضى عقوداً من حياته في عالمه الأثير الذي استقى منه معانيه وصاغ له وجوده نفسه.

15