هل يتحمل العالم حرب عملات جديدة؟

نيويورك - ينذر التراجع في قيمة العملة الأميركية بإشعال حرب عملات شاملة في العالم، الأمر الذي قد يشتت انتباه صناع السياسة عن مهمتهم الأساسية في إنعاش الاقتصاد العالمي بعد انتشار جائحة فايروس كورونا المستجد وتداعياتها على كافة المستويات.
ففي العام 1971 قال جون كوناللي، وزير الخزانة الأميركي في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون لدول العالم، التي كانت تشكو من تضرر اقتصاداتها من تقلبات سعر صرف الدولار “هذه عملتنا، لكنها مشكلتكم”.
ولكن كيف ستتعامل الولايات المتحدة الآن مع تكرار هذا الوضع؟ يقول المحللان الاقتصاديان مارك جيلبرت وماركوس أشوورث في تحليل مشترك نشرته وكالة بلومبرغ إن العملة الأميركية تأخذ اتجاها منخفضا خلال الأشهر الأخيرة.
وجاء إعلان مجلس الاحتياط الاتحادي الأميركي بمثابة تحول جديد نحو سياسة نقدية أكثر تساهلا حيث سيسمح بارتفاع معدل التضخم والبطالة إلى مستويات أعلى مما كان يستهدف سابقا، مع السماح باستمرار المعدلات المرتفعة لفترات أطول وهو ما يعني استمرار تدهور الدولار.
ويقول لائيل بيرنارد، عضو مجلس محافظي مجلس الاحتياطي في كلمة قبل أيام، “لو أننا كنا غيرنا أهداف السياسة النقدية والاستراتيجية بحسب ما جاء في البيان الجديد منذ سنوات، لكنا قد حققنا مكاسب أكبر”. ويعني هذا الكلام أن البنك المركزي الأميركي سيؤخر اللجوء إلى زيادة أسعار الفائدة في المستقبل لوقت أطول مما كان يفعل في السابق.
ويتوقع أن يشجع تطبيق الاستراتيجية المعلنة من قبل رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي جيروم باول بعد مراجعة استمرت عاما، التجار الذين يتكهنون بالفعل بتراجع الدولار على المراهنة على اليورو بمستويات قياسية.
وسجلت العملة الأوروبية صعودا أمام باقي العملات الرئيسية للشركاء التجاريين الأساسيين لمنطقة اليورو، وهو ما أصاب البنك المركزي الأوروبي بدرجة من التوتر.
ويقول فيليب لين كبير الخبراء الاقتصاديين الأوروبيين إن “سعر صرف اليورو أمام الدولار أمر مهم. إذا كانت هناك قوى تحرك سعر صرف اليورو أمام الدولار، فهذه القوى تؤثر على توقعاتنا العالمية والأوروبية وإن هذا الأمر يؤثر على صياغة سياستنا النقدية”.
ويوضح المحللان الاقتصاديان مارك جيلبرت وماركوس أشوورث، أن محاولة بسيطة لخفض قيمة اليورو تشير إلى أن البنك المركزي الأوروبي غير مرتاح للقيمة الحالية لليورو، والتي تزيد حاليا عن 1.2 دولار لكل يورو وهو المستوى الذي قد تجاوزه لفترة قصيرة لأول مرة منذ عامين، وقبل أن تؤدي تصريحات لين إلى تراجع اليورو ليصل إلى مستوى متوسط القيمة منذ طرحه في العام 1999.
ويعرف الهاجس الذي يلاحق البنك المركزي الأوروبي بأنه كلما ارتفعت قيمة اليورو زادت التأثيرات المضادة للتضخم حيث تصبح أسعار السلع الأجنبية أقل. وغالبا ما كان الكساد المستورد مع السلع الرخيصة وخاصة من الصين عاملا أساسيا لاستمرار التضخم المنخفض في الكثير من الدول المتقدمة.
ويرى مارك جيلبرت وماركوس أشوورث أن خيارات البنك المركزي الأوروبي لرفع معدل التضخم إلى المستوى المستهدف محدودة، في ظل أسعار فائدة تقل عن صفر في المئة وإطلاق برامج تخفيف كمّي ضخمة. خاصة أن منطقة اليورو في مرحلة كساد من الناحية الفعلية بعد انخفاض معدل تضخم أسعار المستهلك خلال أغسطس الماضي إلى سالب 0.2 في المئة.
ويثير قلق صناع السياسة النقدية بصورة أكبر التراجع الحاد في معدل التضخم الأساسي الذي لا يتضمن أسعار الغذاء والطاقة الأشد تقلبا إلى 0.4 في المئة.
والتباين في توقعات التضخم بين الولايات المتحدة وأوروبا يفسر بدرجة كبيرة ارتفاع قيمة العملة الأوروبية الموحدة أمام الدولار بنسبة 6 في المئة خلال العام الحالي، حيث يمكن أن يصل مؤشر معدل التضخم في منطقة اليورو خلال السنوات الخمس المقبلة إلى 1.22 في المئة وهو ما يقل بمقدار نقطة مئوية تقريبا عن قراءة معدل التضخم الأميركي الذي يبلغ 2.14 في المئة.
ويمارس مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي سياسة “التجاهل الحميد” لسوق العملة حيث يتيح للبنوك المركزية في العالم الحصول على السيولة الدولارية دون قيود منذ بداية جائحة كورونا، ولا يبدو أن البنك المركزي الأميركي سيتعجل للتخلي عن السياسة النقدية الحالية من أجل مصلحة اقتصاد الولايات المتحدة والعديد من الدول النامية.
وفي ظل هذا الوضع سيبقى البنك المركزي الأوروبي يخوض معركة ضد حائط اللامبالاة لمنع صعود قيمة العملة الأوروبية، علاوة على أن شواهد التاريخ تقول إن “البنوك المركزية عاجزة نسبيا عن تغيير القيمة السوقية لعملاتها”.
فالبنك المركزي الياباني أنفق حوالي 80 مليار دولار خلال الفترة من يناير العام 1999 إلى أبريل 2000، لكنه فشل في وقف صعود العملة اليابانية أمام الدولار. وخلال تلك الفترة ارتفع سعر الين أمام العملة الخضراء إلى 101.46 ين لكل دولار، في حين أن متوسط السعر كان 125 ين لكل دولار. ولم يتوقف صعود الين إلا عندما بدأ المتعاملون يشكون من أداء الاقتصاد الياباني، كما لم يتراجع الين إلا عندما أصبحت الأدلة على تباطؤ الاقتصاد غير قابلة للتشكيك.
ويتوقع على نطاق واسع أنه مع استمرار تمسك مجلس الاحتياطي الاتحادي بأنه يمتلك من أدوات السياسة النقدية أكثر مما تمتلكه البنوك المركزية الأخرى، فإن الدولار سيواصل اتجاهه الهبوطي. وفي حال لم تتغير تلك النظرة فسيضطر البنك المركزي الأوروبي إلى تحمل ارتفاعات جديدة في قيمة اليورو ومقاومة الدعوات المطالبة بالتدخل للحد من هذا الارتفاع وإلا فسيخاطر البنك بتأجيج التوترات التجارية بين جانبي المحيط الأطلسي في الوقت الذي تتزايد فيه هشاشة الاقتصاد العالمي.