هل حقا تكمن السعادة بعدم المبالغة في إرضاء الآخرين

خبراء في علم النفس يؤكدون أن الحصول على السعادة يكمن أحيانا في قول كلمة "لا" لكل ما لا نرغب فيه.
السبت 2019/02/23
التحرر من القيود يجلب الفرح

تدفع العديد من المواقفِ الشخصَ إلى القيام بأعمال لا يرغب فيها أو لمجاملة أشخاص لا يراهم جديرين بذلك، أو تبني قرار عائلي أو جماعي يتعارض مع قناعته الشخصية ما يعرّضه إلى العديد من الضغوط النفسية، ويستمر البعض في القيام بذلك خصوصا في إطار الأسرة معتبرين أنه شكل من أشكال التضحية أو نكران الذات في سبيل صالح أو سعادة بقية أفراد العائلة. لكن مختصين في علم النفس يؤكدون أن الحصول على السعادة يكمن أحيانا في قول كلمة “لا” لكل ما لا نرغب فيه.

لندن - يتردد البعض كثيرا في قول كلمة “لا” حتى في المواقف التي تتطلب ذلك، ويستمرون في تجاهل أصوات الرفض بداخلهم وحالة عدم الرضا، ويعتبر خبراء أنه في هذه الحالات يتمادى الشخص في مغالطة نفسه حين يقول “نعم” لأي شيء لا يريده، مشددين على أن الحصول على الفرحة التي يصعب تحقيقها هذه الأيام ممكن حين نقول “لا” لكل ما لا نريده.

ويُسهّل تبني تقنيات التنمية البشرية الرائجة عالميا اليوم -والتي تقوم على تحفيز الذات من خلال عبارة “كن نفسك لنفسك”- إيجاد طريق السعادة، ويعتبر الخبراء أنه لا بد من التحلي بالجرأة لتطبيق ذلك.

وتظهر هذه العبارة على غلاف كتابين جديدين، يحمل أولهما عنوان “فرحة كلمة لا” لديبي تشابمان، ونشر في نهاية العام الماضي، ويحمل الثاني عنوان “فرحة التفويت” للفيلسوف والطبيب النفسي سيفن برينكمان. كما تبث نيتفليكس برنامج “سحر الترتيب” أين تساعد “ماري كوندو”، خبيرة التنظيم المعروفة عالميا، مشاهديها على الابتعاد عن الفوضى وتجاهل أي ممتلكات لا “تبعث على الفرح”.

ويستهدف كل من تشابمان، وبرينكمان، وكوندو، ترتيب وتنظيم متطلبات الحياة. وبالنسبة إلى كوندو، يتعلق الأمر بالفوضى المنزلية، بينما تركز تشابمان وبرينكمان على فوضى الحياة.

ويعتبر برينكمان أن ضغوط الحياة العصرية باتت شديدة ومتنامية وتؤرق الإنسان وهي تتجاوز الضغوط الأسرية وضغوط العمل إلى ضغوط التكنولوجيا التي تحولت إلى جزء ثابت في الحياة. يأتي هذا الضغط من خلال الدعاية المكثفة على وسائل التواصل الاجتماعي، ويقول “إننا مدعوون باستمرار إلى القيام بشيء ما، أو التفكير فيه، أو تجريبه، أو شرائه، وعندما تغمرنا كميات هائلة من المعلومات يصعب التمييز بين ما هو مهم وما ليس مهمّا”.

ضغوط الحياة باتت شديدة ومتنامية، وهي تتجاوز الضغوط الأسرية وضغوط العمل إلى ضغوط التكنولوجيا

أما تشابمان فترى أن فوضى الحياة تتراكم عندما نشارك في أحداث اجتماعية لا نرغب في المشاركة فيها، وحين نوافق على القيام بمهام في العمل لا تكون من مسؤوليتنا، وعندما نستمر في علاقات معقدة، وحين تنتابنا أفكار ومشاعر مزعجة.

وكما تَعِدُ كوندو بالفرح عند ترتيب المنزل، تشجع هذه الكتب على تصنيف من نوع مختلف كأن يتم إدراج شيء ما في الجانب الاجتماعي، أو المهني، أو النفسي، أو الوجودي. ويعتبر جميعهم أن هذه الطرق تقودنا إلى الشعور بالفرح الحقيقي والحرية.

يجيب المؤلفون عن التساؤل المحير دوما “كيف يمكنني إصلاح حياتي؟” موضحين أن قول “لا” بدلا من قول “نعم”، قد يساعد على ذلك، كالبقاء بدل المغادرة، أو التوقف عن علاقةٍ عاطفية أو عن عملٍ مَّا بدل الاستمرار، إذ تعد هذه الاستجابات منطقية ومناسبة لشعورنا الداخلي، وحين نتصرف وفق ما نشعر به تماما تتحقق السعادة.

وتقول عالمة النفس راشيل أندرو في حديث لصحيفة الغارديان البريطانية إنها تلاحظ ذلك في غرفة الاستشارة، حيث يقول المرضى إن الحياة مرهقة للغاية، ويحس البعض منهم بأنهم منفصلون عن حياتهم التي يعتبرونها دون معنى ولا يمكن تحملها. وتشير إلى أن مرضاها يخبرونها بأنهم غير قادرين على التلاؤم مع السرعة التي تتسم بها الحياة المعاصرة، لكنهم في الوقت نفسه غير قادرين على التوقف، ولا يمكنهم قول “لا”.

وتفسر أندرو ذلك بوجود معتقدات تقف وراء عجز الناس عن قول كلمة “لا”. وتقول عن مسألة إقرار المرضى بصعوبة رفض تحمل مسؤوليات إضافية في العمل، إن ذلك غالبا ما يرجع إلى الخوف من أن يعتقد الآخرون أنهم لا يتعاونون بما فيه الكفاية، وأنهم ليسوا جيدين في عملهم. كما تشكل “نعم” أيضا جزءا من حل غير مستقر لشكوكهم الذاتية، يلجأون إليه دون وعي منهم كنوع من التحدي، إنهم يبذلون هذا الجهد المستمر ليشعروا بالتحسن وبالفرحة عند تحقيق الأشياء، حسب أندرو.

وتؤكد أندرو “غالبا ما ألتقي بأشخاص عانوا من تجارب صعبة خلال مرحلة الطفولة، أين شعروا بعدم الانتماء، أو تعرضوا لصدمة، ولا يريدون أن يقولوا ‘لا’ خوفا من ألا يتقبلهم الناس. يمكن أن يؤدي هذا إلى الحاجة الدائمة إلى قول ‘نعم’ لإرضاء الآخرين”.

يكون الفرح هدفا أسمى.. وللحصول عليه نحاول أن نكون صادقين مع ذواتنا كأن لا نتردد في قول “لا” حينما يجب أن نقوم بذلك، حينها فقط نصل إلى سعادتنا

ويعتبر خبراء أن الأمر أكثر تعقيدا مما يقترحه المؤلفون ومدربو التنمية البشرية حيث يبدو الشخص متناقضا مع نفسه بين قول كلمة “لا” وإرضاء الآخرين. وبالنسبة إلى برينكمان، لا يتعلق الأمر فقط بالرفاهية النفسية، على الرغم من صحة ذلك. ويكتب أن ضبط النفس وتفويت الأشياء أمر حيوي لأن “حياتنا تستند إلى الاستهلاك المفرط والنمو غير المستقر”.

تخيل أنك ألغيت جميع خططك غير المرغوب فيها، أنك قد قلت “لا” لجميع دعواتك التي لم ترغب في تلقيها، وقاومت المشتريات المغرية، وأوقفت أجهزة التلفزيون والهواتف وأجهزة الكمبيوتر؛ أنت تفوت كل شيء وتشعر بالرضا عن نفسك. أنت تجلس وحدك في المنزل، لا تفعل شيئا. ما الذي يحدث بعد ذلك؟

ويقترح كوهين القيام برحلة طويلة على الأقدام دون أي وجهة محددة، أو مقابلة صديق دون حد زمني أو جدول أعمال، بالتالي يشجعنا هذا على محاولة إنشاء مساحة في حياتنا، لا يطوقها الزمان أو المكان أو الغرض. ويبيّن أن فرحته لا تنبع من قول “لا” فقط بل تكمن في التخلص من كل القيود والتصرف بعفوية ومصداقية. ويضيف أن الفرحة تنتابه “عندما أضحك أبناء صديقي، أو عندما أقوم بطبخ العشاء لأصدقائي، وإذا قرأت شعرا يبعث على الكثير من الفرح”. ورغم ذلك هناك شيء محزن، إذ يشعر المرء بمرور الفرح ويدرك أنه ليس إحساسا دائما وقارّا.

في هذه الأوقات  يكون الفرح هدفا أسمى. وللحصول عليه نحاول أن نكون صادقين مع ذواتنا كأن لا نتردد في قول “لا” حينما يجب أن نقوم بذلك، حينها فقط نصل إلى سعادتنا.

21