هل جحود الأبناء تجاه الآباء حصاد لتربية خاطئة؟

اختلفت آراء علماء الاجتماع حول ظاهرة جحود الأبناء تجاه الآباء والتي أصبحت تشمل الفتيان والفتيات على حد السواء، فكما يتحمل الآباء جزءا من المسؤولية بسبب طريقة وأسلوب التربية الذي اتبعوه مع أولادهم، فإن الأبناء أيضا قد اكتسبوا صفات عدائية أثرت على علاقتهم مع أقرب الناس إليهم نتيجة العنف المتصاعد في المجتمع.
القاهرة- أحدثت بعض الوقائع التي تُظهر جحود الأبناء تجاه الآباء في مصر جدلا أسريا واسعا، ولا توجد فروق بين الشباب والفتيات في مسألة العقوق، بل صارت هناك حالة من الاستسهال في التعامل مع الآباء بطريقة قاسية دون اكتراث بالتضحيات التي قدموها لأولادهم على مدى سنوات طويلة.
وكانت أشهر واقعتين صدمتا غالبية الأسر المصرية الأيام الماضية عندما أقدم أبناء رجل على إلقائه في الشارع بلا مأوى، ما أصابه بمرض الشلل والرعاش وبعض الأمراض المصاحبة للشيخوخة، وعدم قدرته على توفير الحد الأدنى من المال، رغم أن جميع أولاده يعملون في مهن تجلب لهم عوائد مادية كبيرة.
وبلغت قسوة الأبناء أن اشترطوا على والدهم العمل وجلب المال أو طرده إلى الشارع، ولأنه عاجز عن القيام بأي جهد ألقوه أمام المنزل، وكانت ابنته تقوم بإلقاء المياه عليه وهو ملقى على الأرض، وابنه الآخر داوم على طرده من المنطقة التي يعيش فيها، حتى لا يجلب الفضيحة والعار للأسرة.
والواقعة الثانية خاصة بالفنان الكبير رشوان توفيق الذي أعلن بالصدفة في إحدى اللقاءات التلفزيونية أن ابنته الصغرى قامت برفع دعوى قضائية تطالبه فيها باسترداد بعض الأموال، على الرغم من أنه وهب حياته وأمواله لها ولشقيقتها، وقام بتوزيع أملاكه على أبنائه في حياته، لتتم مكافأته في النهاية بأن قامت إحداهن بمقاضاته.

عادل بركات: أنانية الأبناء مرتبطة بالتربية القائمة على حب التملك
ولم تعد وقائع جحود الأبناء تجاه الآباء مواقف فردية، لكنها تضخمت ووصلت حد الانتقام من الأب أو الأم بالقتل والتعذيب، وهو ما طرح تساؤلات كثيرة حول هذا التحول في العلاقة، فهل أن السبب هو أسلوب التربية أم تصرفات الآباء التي تدفع الأبناء إلى العقوق؟
وانقسمت الآراء في التفسير بين تحميل الآباء جزءا من المسؤولية بسبب طريقة وأسلوب التربية الذي اتبعوه مع أولادهم، وبين اكتساب الأبناء أحيانا لسمات شخصية عدائية حتى مع أقرب الناس إليهم نتيجة العنف المتصاعد في المجتمع الذي لم يعد يفرق بين أحد، وصار يخترق الأسر نفسها.
ما يرجح التفسير الأول الخاص بنمط التربية الخاطئ أن أحد أبناء الرجل الذي ألقي في الشارع على يد أولاده، خرج وقال للإعلام إن موقفه وأخواته تجاه والدهم نتيجة طبيعية لما فعله بهم في الصغر، حيث كان قاسيا ويقوم بضربهم وتعنيفهم، وهو ما اعترف به الأب لاحقا، وقال إنه أساء معاملتهم أحيانا.
ويمكن من خلال هذه الواقعة الوقوف على أبرز أسباب عقوق الأبوين، وهي المعاملة القاسية التي تتبعها بعض الأسر مع الأبناء فيكبرون وبداخلهم أفكار عدائية لآبائهم، ويتحول الأمر إلى انتقام، باعتبار أن الأب من زرع في الأبناء السلوك العدواني، فلم يرحم طفولتهم أو يتعامل معهم بآدمية عند تربيتهم.
وأكد جمال فرويز استشاري الطب النفسي وتقويم السلوك بالقاهرة أن الأبناء لا يولدون بمشاكل نفسية أو قلوب قاسية ويكتسبون الصفات غير الإنسانية من الدوائر المحيطة كالأسرة والأصدقاء والمعارف، ولا يدرك أغلب الآباء أن علاقتهم بأولادهم حجر الأساس الذي يقوم عليه بناء شخصية وعقلية أولادهم.
وقال لـ”العرب” إن “من يزرع الشوك لا يجني الورد، والمعاملة القاسية لا تجلب سوى القسوة وزراعة العدوانية في النفوس، وهذا لا يبرر جحود الأولاد بقدر ما يدق جرس الإنذار حول أساليب التربية الخاطئة وتوابعها، ربما يصبح العقوق نتيجة للتربية القاسية، وللطريقة التي اتعبتها الأسرة عموما عند تربية أولادها”.
وقد يكون التغافل عن السلوك العدواني للابن مقدمة لاكتسابه صفة العدوانية مع الجميع كلما تقدم في العمر، ويصبح مريضا بداء الكراهية تجاه الآخرين، ومنهم الأب نفسه. وغالبا ما يكون الفتور الأبوي والشح العاطفي من أسباب العقوق، فالأب الذي يتعامل بجفاء مع أولاده يتشوق منهم العاطفة والاحتواء مستقبلا، وقد لا يجدهما.
ويرى متخصصون في العلاقات الأسرية أن السخاء والجود العاطفي يفترض أن يكونا أولوية عند الآباء في طريقة التربية إذا أرادوا أن يتعامل معهم أولادهم باحترام وبر وعاطفة، كما أن جعل علاقة الطرفين مبنية على العطاء المادي فقط مخاطرة من الأبوين، لأن ذلك يولد لدى الأبناء أن المال كل شيء، ولا مانع من خسارة الأب أو الأم بسببه.
ويجعل تعامل الكثير من الآباء بمنطق أنهم مسؤولون فقط عن توفير المتطلبات المادية للأبناء، وإغفال الحنان والرعاية والعاطفة، وتجاهل تكوين صداقات قوية مع الأبناء، أن يكونوا مجرد منتج قيمتهم وأهميتهم مرتبطة بما يوفرونه من مال، وعندما تنتهي الحاجة المادية لا يكون لوجودهم أهمية في حياة الأبناء.
ورأى عادل بركات الباحث والمحاضر في الشؤون الأسرية بالقاهرة أن أنانية وقسوة الأبناء مرتبطة بالتربية القائمة على حب التملك، كأن يتساهل الأبوان في المنح والعطايا، وعدم الاهتمام بكسب أولادهم صفات التأدب مع الكبير، وهذه تصرفات تجعل الصغار أكثر عرضة للانحراف السلوكي وإهمال الاعتراف برد الجميل.
وأوضح لـ”العرب” أن أزمة بعض الآباء تكمن في عدم الاعتراف بأن كل مرحلة عمرية في حياة الابن تتطلب معاملة خاصة في نمط وأسلوب التربية، فالطفولة غير المراهقة والشباب، وهكذا لكل فترة مشكلاتها النفسية والسلوكية التي تتطلب التصرف بحكمة وعقلانية، وجحود الأبناء لا يأتي صدفة وله ملامح تحتاج من الآباء إلى معالجة.

وقائع جحود الأبناء تجاه الآباء لم تعد مواقف فردية، لكنها تضخمت
كما أن لكل طفل أسلوبه الخاص في التربية والتدرج في العقوبة على الخطأ، بدءا من المرونة والتأني ثم المثابرة والنصح والإرشاد، لأن استسهال العقاب طوال الوقت يغذي الكراهية تجاه الأب، وتوحيد أسلوب التربية على كل الأبناء خطأ يرتكبه أغلب الآباء دون اكتراث للمخاطر مستقبلا على تكوينهم ونظرتهم لمن أهانوهم في الصغر.
ولفت بركات إلى أن مقابلة العطاء بالجحود مسؤول عنها الطرفان، لكن الأهم أن الآباء مطلوب منهم زرع الحب والوفاق والتسامح في نفوس أولادهم، لا السيطرة والقسوة والعدوانية، كما أن المشكلات بين الأب والأم أمام الأبناء قد تغذي العقوق تجاه أحدهما، خاصة عندما يميل الابن إلى الطرف الضعيف مثل الأم، فيكبر على كراهية الأب والتفكير في الانتقام منه.
وبعض الآباء يتساهلون في عدم المساواة بين الأبناء في الحقوق، ما يكرس الحقد بين الإخوة ويغذي الكراهية تجاه الأب أو الأم، وهناك آباء تصل درجات تسلطهم تجاه أحد أولادهم حد العقوق، بمصادرة الرأي والإكراه على أفعال بعينها، والتحكم في كل مسارات حياتهم، وهو نتاج غياب التربية القائمة على الحوار، لتحل مكانها الأوامر والنواهي التي تولد التمرد.
ويبدو جحود الأبناء تجاه الآباء ميراثا طبيعيا لأسلوب التربية الخاطئ. فليس مطلوبا من الأبوين أن يكونا مجرد بنك يمنح المال فقط، أو متسلطين لينالوا احترام أولادهم، والأهم أن تكون هناك معاملة لينة توازن بين التشدد والعاطفة والصداقة لأن سوء فهم الوالدين لأبنائهم يتسبب في خلق فجوة في العلاقة بين الطرفين قد لا يستطيع كلاهما تخطيها مستقبلا.