هل تنجح النيران في إطفاء لهيب المعرفة والحقيقة

كان اللهب يتراقص في الهواء، يتلوى كوحش جائع يلتهم الصفحات بشراهة. لم تكن هذه مجرد نار عادية، بل كانت مشتعلة بحروف وأفكار، بأصوات كتّاب رحلوا وأرادوا أن يتركوا أثرًا، فجاءت السلطة لتسكتهم. وقف الناس يتأملون المشهد؛ بعضهم مأخوذ بسحر الاحتراق، وبعضهم صامت يراقب في خوف، وآخرون يدركون أن ما يُحرق أمامهم ليس ورقًا فقط، بل ذاكرة بشرية، وحضارة، وحرية.
عبر التاريخ، كان للكتب نصيبها من النفي والمطاردة، تمامًا كأصحابها. في الأندلس، بعد سقوط غرناطة، وقف الكاردينال فرانسيسكو سيسنيروس يشرف على واحدة من أكبر مجازر المعرفة في التاريخ، حيث أُلقيت آلاف الكتب العربية في النيران. لم يكن ذلك حدثًا عابرًا، بل كان إعلانًا صريحًا بأن الفكر الحر لا مكان له في عالم السلطة القمعية. كانت المخطوطات الطبية والعلمية هي الوحيدة التي نجت، أما الأدب والفلسفة والفكر، فقد كانت نهايته بين ألسنة النار.
تكررت مشاهد القمع الفكري بأشكال مختلفة، وكان أبرزها ما حدث في الاتحاد السوفييتي تحت حكم جوزيف ستالين، حيث خضعت المكتبات والمطابع لرقابة صارمة، وتم حظر وإتلاف أعمال العديد من المفكرين والأدباء الذين اعتُبروا معارضين للنظام. كانت كتب بوريس باسترناك، جورج أورويل، وألكسندر سولجنيتسين من بين الأعمال التي تعرّضت للمنع، لأن كلماتهم حملت أفكارًا تهدد أيديولوجية السلطة وتكشف حقيقتها الاستبدادية. ورغم ذلك، لم تتمكن يد القمع من طمس هذه الأصوات، بل زادت من انتشارها وجعلتها أيقونات للنضال الفكري والحرية.
ومع ذلك، لم تستطع كل هذه النيران أن تطفئ الفكرة الكبرى: الكلمات لا تموت، بل تتجدد مع كل جيل يبحث عن الحقيقة.
وقف وينستون سميث أمام الشاشة الضخمة، يحاول جاهدًا ألا يعبّر عن أي انفعال قد يفضحه. في عالم 1984، لا يكفي أن تطيع، بل يجب أن تحب السلطة، أن تؤمن بها إيمانًا أعمى، حتى ولو كانت تخبرك أن 2+2=5. كان القمع هنا مختلفًا، فلم يكن هناك حاجة لحرق الكتب، بل تمت إعادة كتابتها وإعادة تشكيل اللغة نفسها؛ كل ما عليك فعله هو أن تصدّق، أو على الأقل، أن تتظاهر بالتصديق.

أما غاي مونتاغ في فهرنهايت 451، فكان عالمه أكثر صراحة؛ هنا، لا تحتاج السلطة إلى التلاعب بالكلمات، بل تحرقها مباشرة. لم يكن مسموحًا للناس بالقراءة، ولم يكن هناك تاريخ يُعاد كتابته، لأن التاريخ نفسه لم يكن موجودًا. كل ما في الحياة كان يدور حول شاشات عملاقة، وبرامج سخيفة، وأغانٍ بلا معنى. أما الكتب، فكانت جريمة تستحق العقاب، وكان رجال الإطفاء هم منفذو الحكم، يشعلون النيران في كل ما قد يمنح الإنسان فرصة للتفكير.
في رواية “1984”، الخوف هو السلاح؛ وفي “فهرنهايت 451”، التجهيل هو المفتاح. وفي كلا العالمين، النتيجة واحدة: مجتمع خاضع، فاقد للذاكرة، يسبح في بحر من الأكاذيب دون أن يدرك أنه يغرق.
قد تبدو النيران قوية، قادرة على التهام كل شيء، لكن الكتب ليست مجرد ورق، والأفكار لا تُقتل بالحرق. فحين انتهى عصر محاكم التفتيش، عادت الفلسفات التي حاولوا محوها، وحين سقطت النازية، عادت الكتب التي حاولوا إحراقها. “فلا توجد قوة على الأرض قادرة على إيقاف فكرة حان وقتها”، كما يصف هوغو، وكفيل بالتاريخ إثبات أن الكلمات التي تُحارب تجد دائمًا طريقها إلى النجاة، تتسلل من تحت الرماد وتعود لتكتب من جديد.
“حيثما تُحرق الكتب، يُحرق البشر في النهاية أيضًا.” كما يقول هاينرش هاينه
منذ الأزل، كانت الكتب مرايا تعكس روح الإنسان وعقله، ولهذا كانت هدفًا دائمًا للقمع والاستبداد. فالتاريخ مليء بمحاولات طمس الحقيقة وخنق الأفكار عبر إحراق المؤلفات، وكأن الكلمات يمكن أن تتلاشى وسط ألسنة اللهب. ومع ذلك، كل ورقة تحترق تولد فكرة جديدة، وكل كتاب يُمنع يصبح أكثر حضورًا في الذاكرة الجمعية للبشرية.
ومع ذلك “لا حاجة لحرق الكتب حتى تُدمر ثقافة، يكفي أن نجعل الناس تتوقف عن قراءتها.” كما يصف راي برادبري، لكن التاريخ أثبت أن الأفكار أقوى من النيران، وأن الكتب المحترقة غالبًا ما تعود إلى الحياة، لأن الكلمات لا تموت، بل تتجدد في كل جيل يبحث عن الحقيقة.
“الكتب؟ ماهي إلا مجرد نفايات تسلب الناس السعادة وتقلق حياتهم وتجعلهم يتمردون على المجتمع، لذلك ينبغي حرقها.”
تاريخ الكتب مليء بالحكايات التي لا نهاية لها عن منع الكتب، فمنذ أن كانت هذه الكتب عبارة عن لفائف من الورق اضطر أبو حيان التوحيدي إلى حرقها وسط أحد أسواق بغداد لأنها جلبت له العداوة وضيق الحال، وحتى القرن العشرين حين قرر هتلر، وبحضور آلاف المتفرجين، أن يحرق أكثر من 2000 كتاب وسط برلين، وكان من بين من شملهم الحرق توماس مان، فرويد، كارل ماركس، جاك لندن، برتولد بريشت، إريش ماريا ريماك، همنغواي وعشرات غيرهم. ومنع بينوشيه في دكتاتورية شيلي رواية سيرفانتس دون كيخوته، لأنه كان يرى فيها تحريضًا على الحرية وتحديًا للحكام.
بعض الكتب تتكفل بإلغاء الزمن أو تقطفه لنا كفاكهة محرمة، أو تضعنا على حدود المطلق؛ بعضها يصير مادة مسكرة وينطفئ كما الومض في دمنا، وبعضها نصحبه كتميمة للقلب المستوحد؛ سواها تصير تعويذة الزاهد أو تغدو وطن الغريب المكتفي بوهج العبارة. الكتب لها شذاها ونبضها، ومن تواتر السنوات يتكثف عبقها الخفي الذي يتشهاه عشاق القراءة ويفتتنون بأنفاسه الغبارية. ندرة من الكتب تحيا ككائنات حية: فبعضها كالشجر راسخ ومتجدد تتفتح براعمه لدى كل قراءة، وبعضها خفيف محلق كالطير منتشٍ بموسيقى اللغة، وهناك كتب كالموج تدفعك إلى الأعماق أو تلقي بك على شطآن الوحشة، وكتب نضرة كالربيع، وبعضها ككائنات كتومة تنطوي على أسرارها وتراودنا على المعنى.
رواية فهرنهايت 451 تنبأت (راي برادبري) في مدن تحرم قراءة الكتب والمعرفة، بما سيؤول إلى مستقبل الفكر الإنساني عندما تتدنى قيمة المعرفة وتهيمن سلطة الجهل ويتحكم التلفزيون ببرامجه ومسابقاته وألغازه في حياة البشر، محولاً الجموع إلى قطعان مدجنة مخدرة تلتهم برامج المنوعات والأغاني والمسلسلات، فتدمن عليها فلا تعود معنية بما يحدث من مخاطر وتهديدات لمستقبل البشرية ولا تأبه بأي شأن من شؤون الحياة والمخاطر التي تفترس المجتمع.
في “1984”، يخبرنا أورويل بأنه قد يُهزم الأفراد، لكن فكرة الحرية تظل كامنة، تبحث عن فرصة للعودة، في حين يكمل راي برادبري الغاية في فهرنهايت 451، من خلال مجموعة من “الرجال الكتبيين” الذين يكرسون أنفسهم لحفظ المعرفة شفهيًا، انتظارًا ليوم تتحرر فيه العقول مجددًا.
لعل ما أراد أن يخبرنا به العملان هو أن الحرية تكمن في المعرفة، وأن أول سبيل لإنقاذ الإنسان من حرمان حريته هو حرمانه من المعرفة المتضمنة في الكتب. ربما الفوارق المتغيرة في كلا العملين واضحة في سرديهما، ولكن لا يُجِد الصواب إذا ما قلنا بأنهما أرادا الغاية نفسها إلى حد ما.