هل تغامر مصر بتعميق خفض دعم السلع لعلاج التشوهات؟

وضعت السلطات المصرية رهانها على خفض أوسع لدعم السلع لعلاج التشوهات المتفاقمة في الاقتصاد، وخفض عجز الموازنة، من دون اكتراث لتبعات قراراتها على الأوضاع الاجتماعية، أو أنها مطمئنة إلى صوابها وقدرتها على تمرير الإجراءات الجديدة بلا خسائر.
القاهرة - دخلت القاهرة ما يمكن وصفه بـ”المغامرة” بالتخلي عن جزء من دعم الخبز، والذي يفتح الباب لتخفيضات أكبر في العديد من السلع الأساسية والخدمات، وسط استجابة لتعليمات صندوق النقد الدولي للحصول على شريحة جديدة من القرض هذا الشهر.
وتقررت زيادة سعر رغيف الخبز المدعوم بثلاثة أضعاف بدءا من يونيو الحالي ليرتفع إلى 20 قرشا بدلا من 5 قروش (الجنيه المصري = 100 قرش)، في أول تحريك لسعر الخبز منذ 36 عاما.
وتعتزم السلطات أيضا رفع أسعار الكهرباء في يوليو المقبل، حيث ألمح رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، الذي أعيد تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، إلى العمل على خطة لرفع الدعم عن الكهرباء بالكامل على مدى السنوات الأربع المقبلة.
وذكرت مصادر بغرفة الدواء لـ”العرب” أن قطار الأخبار الصادمة لن يتوقف عند هذا الحد، فمن المنتظر أن ترتفع أسعار 200 صنف من الأدوية والمستحضرات الطبية قريبا، على أن تطال الزيادات المزمعة 1500 صنف على مدار عام.
وظهر خفض الدعم بوضوح خلال السنوات الماضية في شكل زيادة أسعار الكهرباء والوقود، ولذا لن تكون زيادة نسبة خفض الدعم الفترة المقبلة مفاجئة.
وجاءت الصدمة في منظومة الدعم بسبب زيادة سعر رغيف الخبز، والذي تحكمه أبعاد اجتماعية وسياسية، فالطبقات الكادحة، التي تعتمده في غذائها تعاني أساسا بسبب ارتفاع التضخم الفترة الماضية وتراجع القدرة على الشراء.
وأدت قرارات الإصلاح التي اتخذتها الدولة إلى تدني الإنفاق على الغذاء، ومن ثم الملجأ الأساسي في طعام المواطن الأقل قدرة والأضعف دخلا هو رغيف الخبز.
وأصبحت القاهرة مضطرة إلى توجيه جزء من خفض الدعم إلى الطبقات محدودة الدخل عبر تفعيل الدعم النقدي وزيادة المنح والمعاشات عبر برامج تكافل وكرامة للمساهمة في استكمال الحياة في وقت صعب على الفقراء.
وطالب محلل أسواق المال محمد سعيد السلطات بمحاربة الفساد المستشري في بعض القطاعات التي تشرف على منظومة الدعم، وأبرزها وزارة التموين والمخابز، وهو ما كشفت عنه الرقابة الإدارية الفترة الماضية.
وكانت الرقابة الإدارية قد ضبطت قضايا تلاعب تخص السلع المدعومة، وهي خطوة ضرورية قبل اتخاذ قرار خفض الدعم. ورغم أن فاتورة الدعم بحاجة إلى إعادة هيكلة، لكن خفضه الواسع ليس حلا، ويعبر عن البحث عن الحلول السهلة، وعلى الحكومة توصيل الدعم إلى مستحقيه أولا، لأن جزءا من الدعم يتم إهداره بسبب انتشار الفساد.
وشهدت معدلات الدعم تراجعا الفترة الماضية بسبب تعويم الجنيه، ما يقلص القيمة التي يستفيد منها المصريون، كما أن السياسات الحالية مع أنها ستعالج خللا في بند المصروفات بالموازنة، إلا أن أبعادها على الاقتصاد الكلي ليست هي المأمولة.
وتعد خطوات خفض الدعم بشكل أوسع إجراء استباقيا يتزامن مع زيادة بعثة صندوق النقد الدولي للقاهرة لإجراء مراجعة جديدة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، وترغب مصر في تأكيد نجاحها في تنفيذ وصفة، أحد أهم عناصرها خفض الدعم.
ومع أن الإجراءات قاسية لقرارات خفض الدعم، لكن صندوق النقد يؤكد ضرورة وجود برامج حماية اجتماعية، ولذلك تسير الدولة في هذا الاتجاه، لكن خطواتها لا تتواكب مع الارتفاعات السعرية ومعدلات التضخم المرتفعة.
وأوضح سعيد لـ”العرب” أنه حال يتم رفع الدعم بالكامل ثم تعويض ذلك برفع الحد الأدنى للأجور، لن يكون مجديا ذلك في الخروج من الأزمة وحدوث انتعاش، لأن الاقتصاد بحاجة إلى إعادة هيكلة.
وتعني إعادة الهيكلة أن يصبح الإنتاج والتصنيع هما الاهتمام الأول، وإفساح المجال للقطاع الخاص بشكل حقيقي، والاعتماد على الكفاءات في إدارة المصانع والكيانات التابعة للدولة والبعد عن الاختيارات الأمنية في تقلد المناسب واختيار “من يدين بالولاء للسلطة”.
ومن الدلائل على عدم إفساح المجال للقطاع الخاص بشكل كبير، تراجع مؤشر مديري المشتريات بمصر، ويقيس نشاط القطاع الخاص في الدول للشهر 41 على التوالي في أبريل الماضي.
والعامل الإيجابي الوحيد في اتفاق مصر مع صندوق النقد مؤخرا هو تقييد السلطات في تنفيذ مشروعات البنية التحتية، وحثها على الاهتمام بالإنتاج لأنه الحل الرئيسي للنهوض بالاقتصاد للحفاظ على صورة الصندوق، ولذلك طال الاتفاق بين الطرفين.
◙ بعد مضاعفة سعر رغيف الخبز بداية هذا الشهر ثلاث مرات ستتم الزيادة في أسعار الكهرباء مع مطلع يوليو المقبل
وتسعى القاهرة للتحول إلى الدعم النقدي، وهي خطة إيجابية حال تنفيذها بنزاهة مع إغلاق منابع الفساد، وتمنع حصول أصحاب المخابز على بطاقات التموين من الأفراد والتصرف فيها، لأن الأفراد سيتعاملون معها مثل بطاقات الائتمان البنكي (فيزا كارت).
وذكر الخبير الاقتصادي ياسر عمارة لـ”العرب” أن خطوة رفع الدعم تحرك إيجابي إذا التزمت الدولة بتوجيه جزء من الدعم المستقطع للطبقات المحدودة، ضمن خططها للحماية الاجتماعية لشريحة كبيرة من المواطنين.
وأكد مدبولي أن الدولة مستمرة في دعم السولار كمؤثر على السلع الغذائية، ومازالت الدولة تدعم رغيف الخبز بنحو 105 قروش، وهو ما يمثل 84 في المئة من تكلفة إنتاج رغيف الخبز. وأشار عمارة، الذي يرأس مجلس إدارة شركة إيغل للاستشارات المالية، إلى أن دعم السلع في الموازنة لا يتعدى 8 في المئة من إجمالي النفقات.
لكنه أوضح أن تخلي الحكومة يسهم في خفض المصروفات ويقلل من اقتراض الدولة، لأن خدمة وأقساط الديون تستحوذ على 47 في المئة من مصروفات الموازنة للعام المالي المقبل، الذي يبدأ في يوليو 2024.
وقد تؤدي خطوة الحكومة إلى ارتفاع معدل التضخم الفترة المقبلة لو قامت بزيادة أسعار الكهرباء والسولار مع العام المالي الجديد، تزامنا مع زيادة سعر رغيف الخبز.
وقال محللون إن السلطات تراهن على عدم اندفاع الأفراد لشراء السلع لارتفاع سعرها، والاكتفاء بحد الكفاف أو السلع الأساسية، وهذا يعني حدوث تراجع في الاستهلاك وعدم زيادة الطلب، لكن يترتب على ذلك انكماش القطاع الخاص.
وتتعزز تلك الخطة مع تكثيف البنك المركزي سحب السيولة من السوق منذ تثبيت الفائدة، خوفا من بقائها بحوزة القطاع المصرفي والأفراد ما يسمح بنمو الطلب على السلع.