هل تصبح بنغازي أقرب إلى تونس من طرابلس

عندما كانت سلطات شرق ليبيا تواسي الشعب التونسي وتتولى نقل جثامين أبنائه في طائرة خاصة كان هناك تونسيون موقوفون في سجون حكومة الدبيبة ينتظرون الإفراج عنهم ليعودوا إلى عوائلهم.
الأربعاء 2025/03/26
للجغرافيا أحكامها التي لا يمكن تجاهلها

موقف إنساني لافت اتخذته سلطات شرق ليبيا، عندما وجهت طائرة خاصة لنقل جثامين ستة مهندسين تونسيين إلى بلادهم بعد أن قضوا في حادث سير بمنطقة جالو، وقام وزير خارجية الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب عبدالهادي الحويج بمرافقة الجثامين ونقل تعازي ومواساة بلاده للشعب التونسي وأسر الضحايا.

وقد استكملت إدارة المراسم بحكومة شرق ليبيا بالتنسيق مع القنصلية التونسية كافة الترتيبات اللازمة لذلك، وأشارت إلى أن هذا الإجراء يأتي في إطار حرص الحكومة على تأمين عودة كريمة لجثامين الأشقاء التونسيين إلى وطنهم، وتأمين الرعاية الطبية الكاملة لأحد المهندسين الذي نجا من حادث السير ويتلقى العلاج في أحد المستشفيات الليبية.

هذا الموقف، كان له أثره البالغ في نفوس التونسيين، وكشف كيف أن بعض اللمسات الإنسانية يمكن أن تحقق ما لا تحققه القرارات السياسية الكبرى من دعم مباشر للعلاقات بين الدول والشعوب، خصوصا عندما يتعلق الأمر بعلاقات من المفترض أنها علاقة شعب أبناء واحد في بلدين، فما يجمع بين تونس وليبيا ليس فقط وليد وحدة التاريخ والجغرافيا، وإنما كذلك وحدة الدم والوجدان والثقافة، ووحدة الآمال والآلام والطموحات والمصير المشترك.

قرار إرسال طائرة خاصة إلى تونس لنقل المهندسين الضحايا جاء بتوجيهات من المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الذي لا توجد له قوات على الحدود المشتركة، ولم يزر تونس إلا مرة واحدة منذ العام 2014، كانت في سبتمبر 2017 بدعوة من الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ولكنه يعرف قدر تونس ويسعى إلى ربط علاقات جيدة معها ومع قيادتها كما هو الأمر بالنسبة للعلاقات التي تربطه بدول محور الاعتدال العربي مثل مصر والمغرب والأردن والسعودية والإمارات.

ولعل قيادة شرق ليبيا كانت من أكثر قيادات المنطقة ترحيبا بالتغيير الذي شهدته تونس من خلال الإجراءات الاستثنائية التي أقرها الرئيس قيس سعيد في يوليو 2021 وأطاح من خلالها بسلطة ونفوذ الإسلام السياسي التونسي الذي كان متحالفا بقوة مع نظيره الليبي منذ العام 2011 في سياق مشروع إخواني سعى إلى السيطرة على الوطن العربي بدعم من عرابيه الغربيين ومن مموليه الإقليميين.

◄ المشير خليفة حفتر يعرف قدر تونس ويسعى إلى ربط علاقات جيدة معها ومع قيادتها كما هو الأمر بالنسبة للعلاقات التي تربطه بدول محور الاعتدال العربي مثل مصر والمغرب والأردن والسعودية والإمارات

لقد كان من أبرز الأسباب التي ساهمت في دق المسمار الأخير في نعش حكم الإخوان في تونس هو ما حدث في مايو 2020 عندما اتصل رئيس مجلس النواب آنذاك راشد الغنوشي برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في طرابلس فائز السراج لتهنئته بطرد قوات الجيش الوطني من قاعدة الوطية الجوية المتاخمة للحدود بين البلدين والذي تم بتدخل مباشر من الأميركيين والأتراك، وقد تم انتقاد تلك الخطوة على نطاق واسع، وتحدثت كتل نيابية عما وصفته بتواتر تدخّلات الغنوشي في السياسة الخارجية للدولة التونسية وإقحامها في نزاعات داخلية لبعض الدول وصراعات المحاور الإقليمية بما يتناقض مع المواقف الرسمية لتونس على غرار تهنئته لرئيس حكومة الوفاق الليبية بمناسبة الانتصار الذي حقّقه في معركة عسكرية بين الفرقاء الليبيين، وأعلنت أنّ المواقف الصادرة عن الغنوشي لا تعبّر عن موقف البرلمان ولا تلزمه في شيء، مؤكّدة في هذا الإطار أنّ رئيس المجلس لا يملك أي صلاحية قانونية بالدستور أو النظام الداخلي تسمح له بالتعبير عن موقف باسم المجلس ما لم يقع التداول فيه.

عندما أطاح قيس سعيد بحكم الإخوان كان هناك ترحيب كبير في شرق ليبيا مقابل بكاء ونحيب من قبل إسلاميي المنطقة الغربية ممن شعروا بأنهم أمام نكسة حقيقية تهدد ما تبقى من مشروعهم، فكان الخطاب التحريضي والتجييشي على ألسنة رئيس دار الإفتاء بطرابلس الصادق الغرياني وبعض قيادات الإخوان وأمراء الحرب بينما اكتفى رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة بالصمت، رغم أن الرئيس قيس سعيد كان أول من وصل إلى العاصمة الليبية في 17 مارس 2021 لتهنئة السلطات الجديدة بعد أسبوع واحد على نيل حكومة الوحدة الوطنية ثقة مجلس النواب لتباشر مهامها التي جاءت من أجلها وفق ملتقى الحوار السياسي المنعقد بتونس في نوفمبر 2020 برعاية أممية وبدعم مباشر من الرئيس سعيد الذي كان قد حضر الجلسة الافتتاحية.

عندما كانت سلطات شرق ليبيا تواسي الشعب التونسي وتتولى نقل جثامين أبنائه في طائرة خاصة، كان هناك تونسيون موقوفون في سجون حكومة الدبيبة ينتظرون الإفراج عنهم ليعودوا إلى عوائلهم ويعيشوا معها ما تبقى من أيام شهر الصيام. والسبب أن ميليشيات غرب ليبيا قررت أن تعود بالتاريخ إلى الوراء لتجعل من “تجار الشنطة” أداة مساومة على المواقف مع السلطات التونسية ومحاولة للعبث بالعلاقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية العميقة والعريقة بين الشعبين، ولتعمل على تحميل أولئك التجار البسطاء العابرين للحدود أمام أنظار الأمن والجمارك والجيش، المسؤولية عن تدهور الميزان المالي والاقتصادي في البلاد، بينما تبقى شبكات التهريب الكبرى التي يديرها أباطرة الفساد ودواعش المال العام من أمراء الحرب وقادة الميليشيات عصية على التفكيك والحل والملاحقة باعتبار التحالف الموضوعي القائم بين زعمائها ومراكز القرار الحكومي في “طريق السكة” والمتحالفين معه حيثما تمتد أصابع أخطبوط الفساد.

بعد مرور أربع سنوات على توليه الحكم، لم يبد الدبيبة أي نوايا حسنة تجاه تونس، وإنما هو يعمل باستمرار على توجيه رسائل سلبية، وقد تم تفسير ذلك بتحالفه المعلن مع الإسلاميين وإعلانه بوضوح أنه تلميذ في مدرسة الغرياني، والتزامه بنيل رضا أطراف إقليمية لا تريد خيرا للعلاقات بين البلدين الشقيقين.

رغم أن للجغرافيا أحكامها التي لا يمكن تجاوزها، ورغم أن غرب ليبيا كان دائما على علاقة وطيدة بتونس منذ دولة قرطاج العظيمة، إلا أن هناك من يحاول المساس بعمق العلاقة بين البلدين، سواء من خلال الموقف السياسي أو خطاب الكراهية المرسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي والذي كثيرا ما يتجاوز حده، وهو ما يجعل بنغازي تبدو أقرب من طرابلس على الأقل من حيث التواصل الإنساني والحفاظ على روابط الأخوة والمحبة بين الشعبين.

9