هل تشبه النصوص الأدبية أحلام كتابها

الكثيرون منا حين يفكرون في بعض الأفكار ويتبنونها يجدونها مختلفة عما حلموا به أو تخيلوه إذا تحققت أمامهم، هكذا أيضا حال الكثير من الكتّاب الذين تعاشرهم نصوصهم كأفكار قبل تحققها بالكتابة، وما أن تتحقق فلا تجد الرضا الكامل من كاتبها. حول الكتابة والفكرة كان هذا التحقيق مع عدد من الكتاب العرب.
خميس الصلتي
مسقط - لطالما كان الكاتب، أيا كان توجهه، في صراع ذهني مصيري مع فكرة نصه وهو في طور الاشتغال عليه لإخراجه للمتلقي، وهنا يرى البعض أن الغلبة قد تكون للفكرة في أحيان كثيرة وفي أحيان أخرى للكاتب، إلا أن انتصار الفكرة يراه أمرا جيدا خاصة أن الأمر يوجِد نوعا من التراكم والتخمر لذاتها.
هنا يأتي التساؤل: إلى أي مدى قد تشغلنا فكرة النص ليظهر نصا أدبيا حقيقيا؟ وماذا عن الخطوات التي يجب أن يقوم بها الكاتب لتأثيث حقيقة ذلك النص؟
صراع مع الذات
في هذا السياق يقول الشاعر والكاتب يونس البوسعيدي “بالنسبة إلي كان النص (الشعري) دفقة ساخنة، وأكون كذلك من المحترقين بلذتها فأعجل للدفع بها، كان هذا مع سهولة النشر، وفجأة انتبهت لتشابهي مع الآخر، فكأنني وقفت فوصل الآخر وربما تجاوزني، خصوصا مع تشابه الأصوات كما تتشابه ألحان المطربين القدامى، هذا جعلني أنظر إلى نفسي ما الذي يمكنني فعله وقد لا يفعله غيري آنيا أو لفترة مؤقتة؟ حتى علمت أنه ليس المهم أن تقول، وإنما كيف تقول”.
ويضيف البوسعيدي “لا أخفي قولا، فقراءتي غزيرة في حيوات الناس وفي التاريخ، هناك ثمة أصوات تنادي ونحتاج أن نستورد من أعماق تلك الآبار، ونحتاج لأنسنة الجمادات واستظهار أنفاسها، فكان سفري لتلك الحيوات هو فكرة اشتغال جديدة لي، عوضا عن التسكع في زقاق لفظتْ كل معانيها لطرّاقها، أنا أجد في البكارة لذة وفتنة، لذلك أبحث عما لم ينظر إليه بعد، وما لم يقل، وحين أعلم أن العالم ذهب للصوتِ ذاك فإني أعتزل فعل الجوقة وأبحث عن صوت آخر، عن صورة ذلك الصوت”.
الكاتب يشبه آلة التصوير التي لا تتوقف عن التقاط الآلاف من المشاهد اليومية لتختبر مشاعره وعلاقته بالحياة وتفاصيلها
ويوضح “نعم أبحث عن صورة للصوت، صورة لن تتخلق في مخيال غيري، فالمخيال سماء عالية جدا، لا يستطيع أي شاعر أو فنان أو كاتب الارتقاء لها، لذلك أحب كثيرا الارتكاز على الصورة الشعرية المبتكرة المعبرة، خصوصا لو كانت صورة متحركة، غير مكتف فيها بالمشبه والمشبه به فقط، بل أحب أن أرى فيها السينوغرافيا، وصوت المخرج يجرب زوايا سينمائية متعددة، لأستمع بها لقارئ غريب لذلك النص، يقول مأسورا ‘الله الله الله…‘ أو أجد لصا سرقني ولم يشكرني، لكني أعرف أني حينها استطعت تأثيث فكرة نصي الأدبي بابتكار عبقري فذ مبتكر”.
أما الشاعرة والكاتبة الإماراتية شيخة المطيري فتشير إلى أهم الخطوات التي يجب أن يقوم بها الكاتب لتأثيث حقيقة النص وتوضح بقولها “يشبه الكاتب إلى حد كبير آلة التصوير التي لا تتوقف عن التقاط الآلاف من المشاهد اليومية، لتختبر مشاعره وعلاقته بهذه الحياة وتفاصيلها، وما يمكن أن يختبره الشعور، فنجد بعض الأحداث أو الشخصيات أو المواقف تعبر بكل هدوء دون أن تحدث لدى الكاتب أثرا ولكنها قد تتفاعل مع غيرها عاجلا أم آجلا أو أن تختفي بمرور الوقت أو أن تتهيأ لتصبح قصيدة أو قصة”.
وتضيف المطيري “الفارق في الأمر أن الكاتب يرى وميضا يأخذه نحو غيم الخيال، فتراه وكأن العالم في عينيه يصمت قليلا وتراه يتبع وميضه، يرتقي سلم الكلام وهو يكتب ويمسح وينحت أشجار الكتابة، لتبدأ ملامح النص بالتجلي. وفي هذا الوقت يمر الكاتب بما يشبه فوضى المشاعر، يتنفس أنفاسا متقطعة، ويسد فراغاتها بالكلمات، ثم يدخل في حوارات ذاتية طويلة بين النص الذي تشكلت هويته الأولى في روح الكاتب”.
ولا تبتعد المطيري عن رؤيتها حول أساس الفكرة عندما تقول “لعل كثيرا من النصوص تبقى عالقة كغصة لا يمكن لها أن تأتي على هيئة نص أو أن تكتب، ولكنها لا تشبه تماما ما حلم به الكاتب، وأذكر هنا مثلا ما كتبه نزار قباني عن الشعر محاولا رصد ما يحدث ولكن الجميل أن تبقى هذه المشاعر غير مؤطرة بإطار، ويجب أن نتأكد أن النص قد اكتمل بكامل هيأته الأدبية سائرا حيث الخطوات، وأن نحيطه بلغة تليق به وبمشاعره، بأن نرتب باللغة والبلاغة والبيان ما شعرنا به من فوضى الشعور، ثم أن يستريح الخيال على رمال هادئة من التراكيب الإبداعية والعبارات التي تحوي ما فاض من إحساس، وهكذا بين كل تلك المعطيات من اللغة الكريمة يأتي النص الإبداعي“.
الفكرة تشكل الوجود وهي اللبنة الأساسية للحياة وما يكتب عنها من نصوص أدبية كالقصص والروايات والقصائد وغيرها
وللكاتب إدريس النبهاني رؤية خاصة لا تنأى عما ورد في شأن فكرة النص، فيضيف هنا أن من أشهر المقولات المتداولة “إن وراء كل كتاب فكرة ووراء كل فكرة خطوة للأمام”، وأن المحرك لكل إبداع هي تلك البارقة التي تومض في العقل ولربما تكون كاشطة وتر القلب لتقودنا إلى صراع وجودي مع الذات في إيجاد نقاش متضارب الرؤى داخل النفس ما بين دهاليز القلب ومسارات العقل التي تكون كثيرة الإلحاح على المبدع، سعيا لترجمة هذه التقلبات لولادة إبداعية تتمثل في جنس أدبي إبداعي يسلك مسارات الجمال المطروح من قبل الكاتب، فيتمثل لدى المتلقي نص شعري أو نثري مكتمل الجماليات”.
ويوضح النبهاني أن أدولف هتلر يقول “إن الإنسان لا يضحي بنفسه من أجل صفقات تجارية، ولكنه يفعل من أجل فكرة أو مثل أعلى”، والفكرة أساسا بالنسبة إلى الكاتب المبدع ما هي إلا وليدة من صلب حيواته، تغدو روحا حية تتجسد أمامه من خلال سطوره التي يخطها، وبالتالي فإنه يتولاها ولاية الأب لوليده مراقبا مساراته نحو فضاءات الأكوان منذ بداية منبته كنطفة في أخاديد القلب ودهاليز العقل إلى وليد رضيع في كينونة كتابته الأولى، ومن ثم يتعهده نشأة وتعليما وتطويرا وتجميلا وتحسينا حتى يشب وينطلق ويصل للمتلقي نصا مكتمل المفاتن مزهو الرؤى شعرا بجماليات أجناسه المختلفة في تربيته، أو نثرا طيب المتكأ في أساسه قصة أو خاطرة أو رواية أو حتى مقال ناقد، فالفكرة بحد ذاتها أصيلة الانتماء لروح كاتبها ومجالات كتابته”.
وفي ختام حديثه يقول النبهاني “أكبر سعادات الكاتب المجيد هي احتفاؤه بنصه مكتمل الأركان متجسدا بين دفتي كتاب أو منصة إلقاء أو خشبة مسرح أو شاشة فضية تبث الحياة حقيقة لهذا النص بعد أن كان يوما من الأيام مجرد فكرة وشرارة قلق وجودي، لتتجلى نصا أدبيا عظيما كعظمة كاتبه متأسيا بمقولة الكاتب وليم شكسبير ‘كن عظيما في الفعل كما كنت عظيما في الفكرة’“.
مؤرقة ومزعجة

أما الكاتبة والقاصة إشراق النهدية فتضيف من خلال حديثها حول فكرة النص وتحقق ماهيته أن الفكرة هي التي تشكل الوجود؛ وتمثل اللبنة الأساسية للحياة وما يكتب عنها من نصوص أدبية كالقصص والروايات والقصائد وغيرها، وهي الجوهر الذي
ينبعث منه النص فيستقيم به ويصبح له هدف مغر، وبغياب الفكرة لن تكون هناك جدوى من الكتابة أو حتى من العمل الأدبي أيا كان، والعمق يعتمد على الفكرة في النص، ودونه لن تكون للنص جذور تتشعب به في صميم الإنسانية.
ولتأثيث ذلك النص تقول النهدية “إننا نحتاج أن تكون الواقعية جزءا من العمل الأدبي، بحيث نقنع القارئ ونجعل في المصداقية سبيلا لبقاء وخلود النصوص بحيث تبقى مدى الأزمة، خاصة أن القارئ في الوقت الحاضر ذكي وقادر على ملامسة النص بحواسه وجوارحه من خلال ما ينساب من جمالية النص ليصل إلى وجدانه، وهذا يعتمد على جودة الفكرة في النص وقدرته على الشمولية والاستمرارية. وبكوني كاتبة قصة اعتمدت على رسم الشخصية المقنعة والواضحة في جعلها قادرة على النهوض ببقية عناصر القصة من زمان ومكان وأحداث وغيرها من عناصر وخصائص النص”.
وفي ختام هذا السياق الأدبي حول النص وماهيته والمتمثلة في الاشتغال بفكرته وآليات تأثيث حقيقته توضح الكاتبة والقاصة سارة المسعودية قائلة “عندما تلوح في رأسي فكرة نص ما، تصبح الفكرة ملحة ومؤرقة ومزعجة وتظل تطرق جدران رأسي كعصفور يتخبط في صندوق معتم ناشدا الخلاص، وقد تصير هاجسا يشغل عقلي ويقلق مضجعي إلى أن أتخلص منها بالكتابة”.
وتشير إلى التجربة مع الكتابة وتؤكد ذلك بقولها “إنني أرى من تجربة قلقة أن النص الذي ينبت ويخضر في فمك، ثم يبقى طويلا دون أن يجد طريقه للخلاص بالكتابة، يصبح ساما وقد يرديك عليلا أو قتيلا، ولكن حتى مسألة التخلص من الفكرة بكتابة النص تبدو عندي حساسة جدا، عادة ما أحرص على تحرير الفكرة بالكتابة قبل أن تنضج وتكتمل، فحين تطيل الفكرة التمرغ في رأسي، ثم تظل خانقة كنص مكتمل عالق في حلقي لزمن حيث لم يعد يبتغي إلا الخروج بالكتابة، أكتشف أنه نص مشوه لا يقول شيئا مما أردت، ويبقى المعنى عالقا في جوفي”.
وتضيف “لذا علي دائما أن أحرص على أن أمسك بشبح الفكرة وأبدأ بالكتابة قبل أن تنضج وتصبح نصا، على النص أن يخرج ناقصا ليكتمل ويغزل نفسه بتدافع الكلمات والجمل أثناء الكتابة وليس قبلها، فيذهب بي حينها إلى حيثما يصير نصا مقبولا، أو نصا يكتمل فينطفئ بريقه وينتهي الأمر عنده بالكتابة فقط”.
وتختتم سارة “إنها خطتي الناجحة غالبا؛ الشروع في كتابة نص قبل أن يصير فكرة كاملة، ثم بعد أن يصبح النص جسدا مكتملا ومرئيا ومقبولا أعد ذلك المسودة الأولى التي ستحتاج أن تستريح مدة من الزمن قبل أن تمر بمرحلة التشريح والتشذيب والتدقيق والضبط وربما إعادة الكتابة”.