هل تجاوزت صناعة الطاقة النووية أخيرا عقدة تشيرنوبيل

تطوير مستويات السلامة والكفاءة يسهم في جعل القطاع مساهما مهما في مزيج إنتاج الكهرباء عالميا.
الخميس 2024/12/12
الاستثمار في الخطر أحيانا مربح!

يسود اعتقاد بين الخبراء أن حاجة العالم إلى استخدام الكهرباء النظيفة وإنتاجها، لاسيما من الطاقة النووية، ستغير فكرة أن الكوارث التي حصلت سابقا لا يمكن تجاوزها في ظل الوعي بأهمية تعزيز السلامة والكفاءة لتحفيز الاستثمار في بناء المزيد من المفاعلات.

لندن- أبرزت الكثير من التقارير الصادرة أخيرا وسنوات طويلة من استطلاعات الرأي العام أن صورة مصدر نظيف للطاقة تشوهت بسبب ثلاثة أحداث نووية رئيسية على مدار التاريخ، ولعل أبرزها كارثة تشيرنوبيل عام 1986 خلال حقبة الاتحاد السوفييتي.

وأثرت الأحداث في كل من جزيرة الثلاثة أميال قرب مقاطعة دوفين بولاية بنسلفانيا الأميركية سنة 1979 وتشيرنوبيل في أوكرانيا وفوكوشيما في اليابان سنة 2011 على الرأي العام، ووجهته ضد الطاقة النووية في العديد من مناطق العالم لعدة عقود.

وشجع هذا الأمر الحكومات حول أنحاء العالم على الابتعاد عن مصدر الطاقة النظيفة لصالح استمرار استخدام الوقود الأحفوري.

فيليسيتي برادستوك: مزيج الطاقة كان سيبدو مختلفا اليوم لو لم نشهد كوارث
فيليسيتي برادستوك: مزيج الطاقة كان سيبدو مختلفا اليوم لو لم نشهد كوارث

وتعتقد فيليسيتي برادستوك الباحثة في شؤون الطاقة التي تكتب لمنصة أويل برايس الأميركية أن مزيج الطاقة كان سيبدو مختلفا اليوم لو لم نشهد هذه الأحداث، أو إذا بُذلت جهود أكبر لزيادة الوعي العام بالسلامة النووية.

وأشار تقرير حديث نشره مركز أبحاث توني بلير (رئيس الحكومة البريطانية الأسبق) إلى أن صناعة الطاقة النووية كانت ستحمل تأثيرا كبيرا على انبعاثات الكربون العالمية لو واصلت نموها بنفس الوتيرة المسجلة قبل كارثة تشيرنوبيل النووية.

وتوقع أن تكون انبعاثات الكربون أقل بنحو 6 في المئة اليوم لو انتشرت رواية مختلفة عن الطاقة النووية إثر كارثة تشيرنوبيل، بدلا من تلك التي أثارت “قلقا عاما لا أساس له من الصحة.”

وكانت محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية موجودة في بريبيات، على بعد 10 أميال (16 كيلومترا) شمال غرب مدينة تشيرنوبيل و65 ميلا (105 كيلومترات) شمال العاصمة الأوكرانية كييف.

وتشكلت المحطة من أربعة مفاعلات، تبلغ سعة كل واحد منها غيغاواط واحدا. وحلت الكارثة بين يومي 25 و26 أبريل 1986، عندما أغلق العمال نظام تنظيم الطاقة في المفاعل وأنظمة السلامة في حالات الطوارئ وسحبوا جل قضبان التحكم بينما كان المفاعل يعمل بقوة 7 في المئة.

ونتجت عن مزيج من الأخطاء البشرية عدة انفجارات ولّدت كبّة من اللهب حطمت غطاء المفاعل الفولاذي والخرساني الثقيل، وتسبب هذا في انهيار جزئي لقلب المفاعل، ودخلت كميات كبيرة من المواد المشعة إلى الغلاف الجوي وانتشرت عبر الأميال المحيطة بالمفاعل.

وأمكن إجلاء حوالي 30 ألف من سكان بريبيات وأسرع الاتحاد السوفييتي إلى التستر على الكارثة. لكن محطات المراقبة السويدية أبلغت عن مستويات عالية بشكل غير طبيعي من النشاط الإشعاعي المنقول بالرياح.

ونتيجة لذلك اضطرت السلطات السوفييتية آنذاك إلى الاعتراف بالحادث، ولاقت محاولة التستر وتأخير المعلومات احتجاجا دوليا حول مخاطر الإشعاعات التي ستؤثر لاحقا على طبقة الغلاف الجوي والبشر والنباتات والحيوانات.

10

في المئة مساهمة الطاقة النووية في مزيج الكهرباء عالميا، حسب وكالة الطاقة الدولية

وانطلق احتواء النشاط الإشعاعي المتسرب من قلب المفاعل في مايو 1986، وأمكن ردم قلب المفاعل عالي الإشعاع لاحقا في تابوت من الخرسانة والصلب. وتتباين التقارير التي تبلغ عن عدد الوفيات المرتبطة بالكارثة والنشاط الإشعاعي المستمر في المنطقة.

وخلص معدو تقرير معهد توني بلير إلى أن أكثر من 400 مفاعل أطلقت عملياتها خلال العقود الثلاثة التي سبقت تشيرنوبيل، ولكن العدد لم يتجاوز 200 مفاعل خلال ثلاثة عقود منذ الكارثة.

وذكر التقرير أن “النتيجة هي أن الطاقة النووية لم تصبح أبدا مصدر الطاقة المنتشر الذي توقعه الكثيرون، حيث تتجه البلدان عوض ذلك إلى بدائل مثل الفحم والغاز.”

وأشار خبراء المعهد إلى أن حادثين نوويين كبيرين آخرين، وهما فوكوشيما وحادث جزيرة الثلاثة أميال، شوّها كذلك التصور العام للطاقة النووية.

لكنهم يتوقعون الآن أن يشهد العالم “عصرا نوويا جديدا” خلال السنوات القادمة، حيث يضاعف دعاة حماية البيئة والحكومات في جميع أنحاء العالم التزامهم بالطاقة النووية ضمن تحولات الطاقة الخضراء.

وقالت تون لانغنهاغن، المؤلفة الرئيسية للتقرير، “انطلق عصر نووي جديد. لكن استمراره سيعتمد كليا على استعداد القادة لتجاوز الإنذار الكاذب والأيديولوجيات، ولإصدار الحكم بناء على تقييم المخاطر القائم على الحقائق.”

وتوفر الطاقة النووية مصدرا نظيفا ووفيرا لبلدان العالم منذ حوالي سبعة عقود وهي تختلف عن مصادر الطاقة المتجددة، حيث يمكن إنتاجها على مدار 24 ساعة في اليوم، مهما كانت حالة الطقس. وتوفر هذه الميزة تدفق طاقة نظيفا ومستقرا إلى الشبكة.

تون لانغنهاغن: عصر نووي جديد انطلق واستمراره مرتبط بتقييم المخاطر
تون لانغنهاغن: عصر نووي جديد انطلق واستمراره مرتبط بتقييم المخاطر

وأصبحت بعض محطات الطاقة من الجيل الجديد تستطيع العمل لمدة تصل إلى 80 عاما، وتعدّ هذه الفترة أطول من محطات الطاقة التي تعمل بالغاز أو الفحم، وحتى من العديد من المنشآت المتجددة.

وتقدر وكالة الطاقة الدولية مساهمة الطاقة النووية في إجمالي إنتاج الكهرباء العالمية بنحو 10 في المئة، وتصل في الاقتصادات المتقدمة إلى حوالي 20 في المئة.

وتظهر البيانات أن إجمالي قدرة الطاقة النووية في جميع أنحاء العالم يبلغ قرابة 413 غيغاواط عبر مفاعلات منتشرة في 32 بلدا، من بينها دولة الإمارات كأول بلد عربي يتملك مثل هذه النوعية من المحطات المنتجة للكهرباء النظيفة.

وأبرزت الكثير من الدراسات الصادرة على مدى عدة عقود أن الوقود الأحفوري يبقى أكثر ضررا بالصحة والبيئة من الطاقة النووية. ويتوقع الخبراء أن تلوث الهواء من الوقود الأحفوري كان مسؤولا عن حوالي 7 ملايين حالة وفاة سنويا.

وتبدو مستويات مخاطر الطاقة النووية مقتربة من مخاطر طاقة الرياح، وهي أكثر أمانا بحوالي 350 مرة من الفحم.

في المقابل يُعتقد أن كل تيراواط ساعة من إنتاج الطاقة يتسبب في 24.6 وفاة في حالة اعتماد الفحم، و18.4 وفاة في حالة اعتماد النفط، و2.8 وفاة في حالة اعتماد الغاز الطبيعي، و0.07 وفاة في حالة اعتماد الطاقة النووية.

وتعتبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية محطات الطاقة النووية من بين “أكثر المرافق أمانا في العالم.” ويعتمد أمنها على الالتزام بمعايير السلامة الدولية الصارمة.

وأصبح التدريب وأفضل الممارسات أكثر صرامة وتوحيدا دوليا خلال العقود الأخيرة. كما صُممت مرافق تخزين النفايات النووية لتقاوم الزلازل والأعاصير والكوارث المحتملة الأخرى.

11