هل الحقيقة نسبية أم مطلقة؟

لا ينبغي الكف عن طلب الحقيقة، حتى وإن أقررنا بأن تعريفها صعب، ليس لأنا نستفيد منها في حياتنا العملية كنقيض للكذب، وإنما لأن اختيارنا الحقيقة هو توجه إيثيقي.
الخميس 2019/02/07
الحقيقة، هي أرضية تلاقٍ بين البشر

عندما يعلن أحدهم أن ما يقوله هو الحق بعينه، فهل أن ذلك فعلا حقيقة لا غبار عليها أم ما يعتقد أنه الحقيقة؟ بعبارة أخرى، عندما يلتقي طرفان، ويقسم كل واحد منهما بصدق أنه يقول الحقيقة، فأي الطرفين نصدق؟ وما هي الوسيلة لفرز الحق من الباطل؟ وهل الحقيقة واحدة في المطلق أم أن لكل واحد حقيقته؟

من المسلمات التي ترسبت في الأذهان أن هذه النظرية أو تلك حقيقية ما دامت توافق الواقع، أو أنها تقبل الإثبات بالملاحظة والتجربة، بيد أن الفلاسفة، بدءا بسقراط، علمونا أن نحذر التعريفات الضيقة والساذجة للحقيقة، لأن الحقيقة هي فعل لغة، واللغة منظومة من المواثيق، والمواثيق بطبعها قابلة للطعن والنقض.

 ومن ثَمَّ يغدو الحديث عن حقيقة مطلقة نوعا من مجانبة الحقيقة، مثلما يغدو الاتفاق على الحقيقة نفسه محل نظر. لأن الحقيقة بنية، وسردية قد تكون فعالة ومقبولة، ولكنها ليست نسخة من الواقع. أي أن الحقيقة ليست بالوضوح الذي نتصوره، وحسبنا أن نذكر بأن أفلاطون كان يقول إننا لو كنا نعرف الحقيقة لما احتجنا إلى البحث عنها، والحال أن هذا البحث هو ما به تتحدد الفلسفة.

ولذلك ظل المفكرون يختلفون في ماهية الحقيقة. بعضهم يقول: لما كان من الصعب تعريف الحقيقة، فلنحاول على الأقل التعرف عما به تتميز، فيقترح البداهة، أي شعور الفرد بامتلاك الحقيقة، أو يقترح قابلية إثباتها؛ فيرد المعترضون بأن الأولى مخادعة تقوم على وهم، وأما الثانية فهي قابلة للدحض أيضا ولو بعد أجيال، كبعض الحقائق العلمية والفلسفية.

وبعضهم الآخر يعتقد أن الحقيقة ذاتية، كقولهم الحق في ما أرى، والصواب في ما أعتقد. وقد تكون نسبية، تتساوى فيها الحقائق جميعا، فما يقوله شيوعي يعتبره شيوعي آخر صوابا، بينما يعتبره الديمقراطي الليبرالي خطأ. ولذلك كانت الفلسفة منذ نشأتها لا ترتاح إلى النسبية. فهل معنى ذلك أن نستغني عن الحقيقة، وننقطع عن طلبها؟

لا ينبغي الكف عن طلب الحقيقة، حتى وإن أقررنا بأن تعريفها صعب، ليس لأنا نستفيد منها في حياتنا العملية كنقيض للكذب، وإنما لأن اختيارنا الحقيقة هو توجه إيثيقي، فالحقيقة، حتى وإن كانت جزئية، ونسبية، ووقتية، هي أرضية تلاقٍ بين البشر، وإن اختلفوا حولها. بفضلها يستطيع الفلاسفة والعلماء أن يتجادلوا ويحاولوا تقريب وجهات نظرهم، بخلاف المتزمتين الذين يعتبرون آراءهم أو معتقداتهم حقيقة لا تقبل النقاش، ولا تتصالح البتة مع الآخر، بدعوى أنها صادرة عن “معرفة مطلقة”. 

15