هل الأدب في خطر؟

الكتاب الورقي قد يختفي نهائيا من الأسواق وعدد القرّاء في جميع أنحاء العالم في انخفاض مفزع.
الجمعة 2020/01/03
قراءة سطحيّة وسريعة (لوحة: ساشا أبو خليل)

منذ نهاية القرن الماضي، وبداية الألفية الجديدة، أي مع الانتشار الواسع والهائل لوسائل الاتصال الحديثة، واكتساحها لجميع ميادين الحياة، شرعت أصوات هنا وهناك في دقّ الأجراس مُعْلنة أن الأدب في خطر، وأن الأعمال الكبيرة خصوصا في مجال الرواية كتلك التي شهدها القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين في طريقها إلى الاضمحلال، وأن الكتاب الورقي قد يختفي نهائيا من الأسواق، وأن عدد القرّاء في جميع أنحاء العالم في انخفاض مفزع. ولإقامة الدليل على ذلك قدّم أصحاب هذه الأصوات أدلة بدت للكثيرين مُقنعة، وصائبة، بل قاطعة.

لكن ما تجاهله أصحاب هذه الأصوات، أو هم تغافلوا عن ذكره عمدا أو عن غير عمد، هو أن تحذيراتهم من موت الأدب كانت قد سبقتها العديد من التحذيرات الأخرى، خصوصا مع انتشار الراديو والتلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين.

وأذكر أنني قرأت ذات مرة مقالا صدر في إحدى الجرائد الفرنسية عام 1947، وفيه يقول صاحبه إن فرنسا أصبحت مثلما كان حالها في أواخر عهد لويس الرابع عشر “مستشفى من دون أدوية”. وهو يعني بذلك أن المشهد الأدبي والفكري والفلسفي في بلاد موليير وديدرو وروسو وفولتير وبالزاك وستاندال بات يفتقر إلى أعمال مهمة. لذا أصبحت الثقافة الفرنسية مهددة بالسطحية والبؤس والرداءة على جميع الأصعدة.

لكن سرعان ما ظهرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أعمال أدبية وفكرية وفلسفية كذبت توقعات صاحب المقال المذكور، ودحضتها.

ورادّا على الذين يرون أن عهد الأعمال الكبيرة والهامّة قد ولّى، وأن الأدب السطحي والرّديء هو الذي أصبح طاغيا ومهيمنا، قال أنطوان كابانيون، وهو ناقد كبير وأستاذ مرموق في “الكوليج دي فرانس”، إن التّشكّي من ظاهرة انحسار الأعمال الكبيرة ليست جديدة. فقد حدث هذا في فترات مختلفة منذ بروز الحداثة في منتصف القرن التاسع عشر. وعقب كلّ فترة من هذه الفترات، تظهر أعمال مهمّة، بل عظيمة أحيانا.

قرّاء جدد
قرّاء جدد

فقبل صدور الجزء الأوّل من “البحث عن الزّمن المفقود” لمارسيل بروست، وكان ذلك عام 1913، لم تشهد فرنسا عملا أدبيّا بتلك القيمة العالية حتى أن القرّاء والنّقّاد ظنّوا أن عهد الأعمال المهمة والعميقة قد دفن إلى الأبد.

ويعتقد الأستاذ كابانيون أن ما يتميّز به الأدب الفرنسي منذ القرون الوسطى هو التّواصل. فقد أثبت التّاريخ أن لكل قرن عظماءه وعبقريّاته. والشيء الذي لفت انتباهه في الفترة الأخيرة هو العودة إلى فترة الحرب الجزائريّة، فقد أصدر عدد من الروائيين أعمالا مهمّة عن تلك الفترة القاتمة، كاشفين عن ملامح مجهولة، وعن جوانب نفسية وإنسانية لم يتمّ التطرّق إليها من قبل.

ومع أن هذا الأمر يأتي متأخرا، فإنه يمنح الأدب الفرنسي تلك القدرة على الغوص في الواقع تماما مثلما هو حال الأدب الأميركي الذي استطاع مع كتّاب من أمثال نورمان مايلر، وترومان كابوتي، وشارل بوكوفسكي، وهونتر س. طومسون وغيرهم، أن يكون مواكبا للواقع في سيلانه وتدفّقه اليومي، وتغيراته المتلاحقة.

ويرى كامبانيون أن الشعراء الفرنسيين الحداثيين الكبار من أمثال رامبو، وبودلير، ومالارميه، وفاليري، وأبولينير وغيرهم، لم يكتسبوا الشهرة التي تليق بمقامهم إلا بعد وفاتهم. لذلك لا بدّ من الإقرار بأن عدد قرّاء الشعر الحديث محدود دائما.

من هنا يمكن القول -بحسب كامبانيون- إن الأدب ليس في خطر، وإنما القراءة هي التي تواجه مصاعب بسبب الإنترنت. وصحيح أن الناس لم ينقطعوا عن القراءة، بل لعلّهم يقرأون أكثر من ذي قبل، غير أن قراءاتهم سطحيّة وسريعة. لذا هم لا يقبلون على الأعمال الروائيّة أو الشعريّة أو الفلسفيّة أو غيرها من الأعمال التي تتطّلب التأني والصبر والتأمل العميق.

أما الظاهرة الخطيرة الأخرى التي يُحَذّرُ منها الأستاذ كامبانيون فهي القطيعة بين العلم والأدب. فالكثير من الأطباء والمهندسين وعلماء الفيزياء والكيمياء وغيرهم، يعتقدون أنهم ليسوا بحاجة إلى قراءة الشعر، أو الرواية أو الكتب الفلسفية أو النقدية لأنها بحسب رأيهم، ليست من اختصاصهم. والحال أن هؤلاء بحاجة إلى ثقافة أدبية حتى لا تعميهم اختصاصاتهم العلميّة عن الواقع الإنساني في جميع تجلّياته، وإفرازاته.

وقد دلّت التجارب على أن المغالين في إيمانهم بقوة العلم غالبا ما يفقدون الحس الإنساني، ويتجلون في كائنات مسكونة بالعنف والشر كما كان حال العلماء الذين استخدمهم هيتلر وستالين في المحتشدات ومعسكرات الاعتقال، والذين كانوا يتعاملون مع الكائن البشري كما لو أنه فأر في مخبر.

ولو نحن عدنا إلى التاريخ لكشف لنا أن انصراف الناس عن الأدب متوهمين أنهم قد يجدونه في مجالات أخرى، مثلما هو حالهم راهنا مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة، قد يضللهم، ويوقعهم في أخطاء جسيمة. وهذا ما حدث لهم مع التقدم العلمي. فقد ظنوا أن الاكتشافات العلمية الكبيرة قد تحقق لهم السعادة المرجوة، وتخفف من آلامهم، ومن عذاباتهم. غير أن الحربين العالميتين، وما جرّتاه على الإنسانية من كوارث جسيمة، أبطلت مثل هذه الأوهام، وقدمت الدليل القاطع على أن التقدم العالمي قد يكون سببا في دمار الكون، وفي خراب الأرض كما في قصيدة إليوت الشهيرة.

14