هل أنقذ اتفاق تركيا وروسيا وإيران السوريين من فوضى سقوط النظام؟

لا يمكن الحديث عن حالة الهدوء التي تعرفها أغلب المدن السورية بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، من دون التوقف عند الاجتماع الثلاثي بين تركيا وروسيا وإيران المعلن في الدوحة قبل يوم واحد من دخول الفصائل المسلحة إلى العاصمة دمشق، والذي أسفر عن اتفاق رباعي بعد إشراك قطر في الاتفاق النهائي على خارطة طريق تم إملاؤها على زعماء المعارضة وإقناعهم بأنها طريقهم إلى كسب الولاء في الداخل والاعتراف من الخارج، وعدم توريط البلاد في المزيد من مظاهر الانفلات الأمني والانقسام الاجتماعي والخراب الاقتصادي أو الدفع بها إلى حرب مفتوحة لن تكون في مصلحة أي طرف داخلي، وقد تضع المنطقة ككل فوق برميل بارود قابل للاشتعال في أيّ لحظة.
أدى الاتفاق إلى تخلي طهران نهائيا عن نظام الأسد وسحب مسلحيها ومستشاريها والتوقف عن التدخل في الشأن السوري مقابل تعهد تركي بعدم مساس الفصائل المسلحة بمناطق الشيعة وفي مقدمتها حي السيدة زينب الذي يعتبر المركز الأساسي للنفوذ المالي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعقائدي في سوريا، وعدم اتخاذ أيّ موقف يعتبره الإيرانيون متسرعا بخصوص العلاقات الثنائية ومصالح بلادهم في الداخل السوري.
◄ أحمد الشرع وصل إلى دمشق ومعه توصيات تركية وتجربة حكم في إدلب ومراجعات لمسيرته التي عاشها مقاتلا وسجينا وقائدا وحاكما مع طموحات واضحة للقيام بدور سياسي مهم خلال المرحلة القادمة
تنازل إيران عن النظام السابق لم يأت من فراغ وإنما من قراءة واقعية للأحداث والتطورات، لاسيما بعد زيارة وزير خارجيتها عباس عراقجي، الذي قال إن بلاده كانت على تواصل كامل مع دمشق، وكانت تعلم أن هناك تحركات في إدلب وأجهزة مخابراتها كانت على علم تام بتلك التحركات، وأنها أخبرت الحكومة السورية بالمعلومات الكاملة، لكن بشار لم يكن يمتلك السلطة على قواته التي قررت التخلي عن نظامه.
أدركت إيران أن المنطقة تشهد تحولا دراماتيكيا بالنسبة إليها، وخاصة بعد الضربة القاصمة التي تلقاها حزب الله اللبناني، وبعد أن تحولت سماء سوريا إلى ملعب مفتوح للطيران الإسرائيلي في واحدة من أكبر عمليات صيد المتحركين على الأرض. المعطيات التي تأكدت منها طهران وأبلغتها للأسد أن سلطاته مخترقة، وأن هناك من داخل منظومة القرار الأمني والعسكري والسياسي من يبلغون تل أبيب بكل ما يدور على الأرض وخاصة عندما يتعلق الأمر بخبرائها ومستشاريها وضباطها وبشحنات أسلحتها. الأمر اتضح لاحقا بعد أن أظهرت وثائق مسرّبة، وجود مراسلات بين إسرائيل ووزارة الدفاع السورية بشأن ملف وجود إيران وحزب الله في سوريا.
بالنسبة إلى روسيا كان دورها في الاتفاق التسليم بانهيار النظام الذي يعتبر أبرز حلفائها في المنطقة، ونقل الرئيس المخلوع إلى موسكو ومنحه اللجوء السياسي بمعنى إنهاء دوره إلى الأبد، ومنعه من أيّ محاولة مستقبلية للتدخل في الشأن العام في بلاده. كانت روسيا تعلم أن النظام أصبح جثة هامدة ومن الغباء المراهنة على بقائه. وهي تأمل في فتح صفحة مختلفة مع النظام الجديد تحافظ بها على مصالحها، لاسيما أن العلاقة بين موسكو ودمشق ليست وليدة حكم أسرة الأسد، وإنما تسبق ذلك بكثير، وهي ذات أبعاد إستراتيجية وثقافية واجتماعية واقتصادية، ويحتاج إليها الطرفان في سياقات الحفاظ على موقع كل منهما ضمن التوازنات الجيوسياسية.
أما بالنسبة إلى تركيا، فهي عرّابة حفل الإطاحة بنظام الأسد، وهي القوة الضاربة التي عرفت كيف تستفيد من الوضع، وكيف تربي الوحش الذي سيطبق فكيه على الفريسة، وكيف تجعله أليفا عند الضرورة. وذلك لاعتبارات عدة من بينها خدمة مصالحها وفي مقدمتها الأمنية والاقتصادية، وقطع الطريق أمام الطموحات الانفصالية للأكراد المستقوين بالحماية الأميركية في شمال سوريا، والتخلص من عبء الملايين من اللاجئين السوريين على أراضيها.
◄ السلطات الجديدة تعمدت اعتماد اسم أحمد الشرع بدلا عن أبي محمد الجولاني، وهو ما يمثل إشارة على أن الرجل يريد أن يرتدي بدلة العمل السياسي الرسمي والتخلي عن المرحلة السابقة
كان واضحا أن الأتراك أبلغوا الفصائل المسلحة منذ البداية بتجنب الاقتراب من مدن الساحل السوري حيث مصالح روسيا العسكرية، وحيث ما يعتقد البعض أنه الحاضنة الشعبية الباقية للنظام، بالأخص لأن علويي الأناضول في تركيا الذين يعتبرون امتدادا لعلويي سوريا، يبلغ عددهم أكثر من 8 ملايين نسمة، وهم يشكلون 10 في المئة من سكان تركيا ما بين أتراك وأكراد وعرب، ويعتبرون أكبر طائفة في البلاد بعد السنة، وأيّ مساس بهم قد يكون دافعا لحرب أهلية مستدامة في سوريا ولتوتر اجتماعي وتهديدا للسلم الأهلي في الداخل التركي.
تعلم تركيا، أن ما قد يحدث في سوريا بعد وصول الفصائل إلى دمشق سيحسب عليها سواء كان إيجابيا أو سلبيا، وأن صورتها وعلاقاتها ومصالحها ستكون في الميزان، كما أن اللعب على وتر الأقليات يمكن أن يشعل نارا غير قابلة للانطفاء في المنطقة. يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قرأ الدرس جيدا وتعلم من سوابق العراق وسوريا، ونظر بكثير من الاهتمام إلى علاقات بلاده الإقليمية والدولية.
نتيجة ذلك برزت عدة مؤشرات. أولا، لا بد من الإشارة إلى أن الفصائل المسلحة التي أطاحت بالنظام وطوت صفحته فجر الثامن من ديسمبر، أثبتت انضباطها العسكري والتزامها بالأوامر الصادرة عن القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية، ولم تتورط في صراع الغنائم ومظاهر الثأر والانتقام، وفي أحداث الفوضى والعبث بالمؤسسات العامة والخاصة، كما حدث مثلا في الحالة الليبية عندما تمت الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي في صيف 2011، أو عندما سيطرت ميليشيات سورية على مدن وقرى خلال الحرب الأهلية. المظهر الوحيد الذي جسّد جانبا من الفوضى غير محسوبة العواقب، هو الإسراع بفتح السجون وإطلاق سراح المقيمين فيها على أساس أنهم معتقلون سياسيون أو ضحايا للدكتاتورية بينما نسبة مهمة منهم هي من السجناء الجنائيين المتورطين في جرائم القتل والاغتصاب والسطو وغيرها وكذلك في قضايا الإرهاب بوجوهه البشعة التي شكلها تنظيما القاعدة وداعش الإرهابيان والقتلة المأجورون والمرتزقة الأجانب وغيرهم ممن يمكن أن يتحولوا إلى خنجر في ظهر السلم الأهلي الذي تسعى إلى تكريسه السلطات الجديدة.
وملف الإرهاب بالذات يحتاج من القيادة الجديدة إلى التعبير عن موقفها منه بوضوح تام، وبخاصة عندما تحولت الأراضي السورية بين عامي 2012 و2016 إلى ساحة استقطاب للآلاف من الإرهابيين من مختلف دول العالم، وعندما تعرّضت أعداد كبيرة من عناصر الجيش والأمن والحزب الحاكم والسكان المحليين إلى القتل والتعذيب والتنكيل والترهيب والتهجير تحت بند التكفير وبدوافع سياسية أو طائفية مقيتة.
◄ إيران أدركت أن المنطقة تشهد تحولا دراماتيكيا بالنسبة إليها، وخاصة بعد الضربة القاصمة التي تلقاها حزب الله اللبناني، وبعد أن تحولت سماء سوريا إلى ملعب مفتوح للطيران الإسرائيلي
تعمدت السلطات الجديدة منذ صباح الثامن من ديسمبر اعتماد اسم أحمد الشرع بدلا عن أبي محمد الجولاني، وهو ما يمثل إشارة على أن الرجل يريد أن يرتدي بدلة العمل السياسي الرسمي والتخلي عن المرحلة السابقة بما فيها من علاقات ملتبسة مع الإرهاب سواء من خلال انتمائه إلى تنظيم القاعدة منذ العام 2003 تحت قيادة أبي مصعب الزرقاوي، أو خلال تدشينه في العام 2013 لجبهة النصرة باعتبارها الواجهة السورية للقاعدة، قبل أن يضطر في العام 2016 لتغيير تلك الواجهة تحت ضغط الممولين والداعمين الإقليميين، فأطلق على تنظيمه اسم جبهة تحرير الشام، لتتحول في العام 2017 إلى هيئة تحرير الشام من خلال اندماجها مع جبهة أنصار الدين ثم جيش السنة ولواء الحق وكذا حركة نورالدين الزنكي، ثم انضمّت إليها عناصر من حركة أحرار الشام التي تعد جماعة سلفية أيضا لكنها أقل تشددا من نظيراتها.
كذلك، فإن الكثير من الإجراءات المعلنة كمنع ترديد عبارات مؤذية مثل “الشبيحة”، ومنح الأمان للعسكريين المدرجين في لوائح الخدمة الإلزامية خلال النظام السابق ومنع الاقتراب منهم أو المساس بسلامتهم، ومنع التعرض للإعلاميين العاملين في التلفزيون والإذاعة السورية وصفحات التواصل الاجتماعي والتحذير من توجيه أيّ تهديد لهم تحت أيّ ظرف، وملاحقة من يخرق تلك التعليمات قضائيا، يعني أن السلطات الجديدة لا تريد التورط في مظاهر تقسيم المجتمع أو تجريم جزء منه أو بث الحقد والكراهية بالقول أو بالفعل بين سوريي الداخل الذين كانوا مجبرين على إبداء الولاء للنظام الدكتاتوري المستبد وبين سوريي المهجر أو المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة المركزية ومن كانوا يحملون السلاح منذ العام 2011.
إلى حد الآن، لم يتم تسجيل حوادث يمكن أن تشكل خطرا على السلم الأهلي في سوريا. أحمد الشرع وصل إلى دمشق ومعه توصيات تركية واضحة، وتجربة حكم في إدلب، ومراجعات لمسيرته التي عاشها مقاتلا وسجينا وقائدا وحاكما، مع طموحات واضحة للقيام بدور سياسي مهم خلال المرحلة القادمة.