هل أخطأ الكوني عندما اقترح العودة إلى نظام الأقاليم في ليبيا

الحقيقة التي لا يمكن إنكارها كواقع على الأرض أن هناك سلطة في طرابلس معترفا بها دوليا وهناك حكومة موازية تباشر عملها من بنغازي يمتد نفوذها إلى 85 في المئة من الجغرافيا الليبية.
الخميس 2025/03/06
علم الاستقلال بألوان فزان وبرقة وطرابلس

قام الشارع السياسي الليبي ولم يقعد بسبب تصريحات منسوبة إلى عضو المجلس الرئاسي عن إقليم فزان موسى الكوني، تحدث فيها خلال لقائه مع السفير البريطاني لدى ليبيا مارتن لونغدن عن ضرورة العمل بنظام الأقاليم الثلاثة بمجالس تشريعية مستقلة، حيث تم تخوين الرجل، والتشكيك في وطنيته، وارتفعت الأصوات الداعية إلى إقالته أو تجميد عضويته في المجلس الرئاسي والتحقيق معه من قبل النائب العام ومقاضاته بتهمة التآمر على أمن المجتمع وسيادة الدولة ووحدة البلاد.

في اليوم الموالي، طرح الكوني الفكرة خلال اجتماع مع رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عماد السايح وآمر المنطقة العسكرية بالساحل الغربي الليبي الفريق صلاح الدين النمروش، وعمل على تفسير رؤيته بخصوص “اعتماد نظام المحافظات لضمان توزيع الميزانيات بشكل مباشر على المناطق، ما يسهّل متابعة المشاريع ويخفف العبء عن الحكومة المركزية التي ستتفرغ لدورها السيادي.”

لم تكن تلك المرة الأولى التي تطرق فيها الكوني إلى إمكانية العودة بالبلاد إلى فجر الاستقلال عندما تم اعتماد النظام الاتحادي وقيام المملكة الليبية المتحدة المكونة من أقاليم طرابلس وبرقة وفزان، في أول تشكيل لملامح الدولة الليبية الحديثة كما نراها اليوم. فقد سبق له الحديث خلال السنوات الماضية عن إمكانية الخروج من حالة الانسداد السياسي بالعودة إلى نظام الأقاليم الذي كان معتمدا قبل 1963 ونظام المحافظات المعمول به قبل عام 1969، ورأى أن ذلك قد يسهم في الحد من النزاعات على السلطة.

◄ هناك نظام فيدرالي قائم حاليا في ليبيا ولكنه ممسوخ وما جاء على لسان الكوني ينمّ عن وطنية صادقة وعن فهم للواقع وعقلانية ولكن المصالح الشخصية والفئوية تطغى على الجميع

ليس الكوني وحده الذي تبنّى هذه الفكرة، فمنذ الإطاحة بنظام الزعيم الراحل معمر القذافي في العام 2011، عرفت ليبيا الكثير من التحركات المنادية بالعودة إلى النظام الاتحادي، وكانت الانطلاقة من برقة شرقا وامتدت إلى فزان جنوبا وطرابلس غربا، وظهرت إلى الوجود مجالس إقليمية تدعو بقوة للعودة إلى دستور 1951 بل وحتى إلى استعادة العمل بالنظام الملكي، وكل ذلك متاح في مجتمع يزعم أولياء الأمر فيه بأنه تعددي وديمقراطي ويضمن حرية الاعتقاد والتعبير.

منذ العام 2014 تم تكريس نظام الأقاليم بصورة رسمية، ولاسيما بعد انتقال مجلس النواب إلى شرق البلاد وبالتحديد إلى مدينة طبرق في أغسطس من ذلك العام فرارا من انقلاب ميليشيات الإخوان على نتائج الانتخابات وسيطرتها على مؤسسات الدولة في العاصمة طرابلس، وانتقال الحكومة الشرعية إلى مدينة البيضاء التي كانت تعتبر عاصمة للبلاد في الحقبة الملكية، مقابل تشكيل مواز في طرابلس، إلى أن جاء اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 ليزيد من تأكيد حالة الانقسام بين “فجر ليبيا” في غرب البلاد و”الكرامة” في شرقها، وتشكيل حالة الانقسام في مختلف أجهزة الدولة وخاصة الحكومة والمصرف المركزي ومؤسسة النفط والجيش والقضاء والأمن.

في العام 2019 اتجه الجيش الليبي الذي يقوده خليفة حفتر ويتخذ من شرق البلاد مقرا لقيادته العامة بعد انتصاره على الجماعات الإرهابية في بنغازي ودرنة وبسط نفوذه على مناطق واسعة من شرق البلاد ووسطها، للسيطرة على إقليم فزان التاريخي، ومنه اتجه إلى المنطقة الغربية ليخوض حربا طاحنة ضد ميليشيات حكومة الوفاق، بهدف السيطرة على كامل الجغرافيا الليبية. إلا أن حالة التردد التي أصابت قياداته الميدانية والخيانات التي ضربتها من الداخل، وفشله في حسم المواجهة، فتح المجال أمام تدخل تركي كاسح بالخبرات والمرتزقة والطيران المسير، أدى إلى ترجيح الكفة لفائدة ميليشيات “بركان الغضب”.

بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، توصل ملتقى الحوار السياسي تحت إشراف الأمم المتحدة، وبتدخلات معلنة من مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، إلى اتفاق الفرقاء على تشكيل سلطة تنفيذية جديدة وقع انتخابها في اجتماعات جنيف في فبراير 2021 وفق تقسيم يعكس طبيعة النظام الاتحادي. فرئيس المجلس الرئاسي يكون من برقة مع نائبين من طرابلس وفزان، ورئيس الحكومة من طرابلس مع نائبين من فزان وبرقة، مع توزيع الوزراء ووزراء الدولة حسب الأقاليم. وفي ذات السياق، اتفق ممثلو مجلسي النواب والدولة بعد ماراثون الاجتماعات في بوزنيقة المغربية على توزيع المناصب السيادية بناء على المعيار الجغرافي على أقاليم ليبيا الثلاثة، حيث مُنح منصبا محافظ ليبيا المركزي وهيئة الرقابة الإدارية إلى إقليم برقة، وديوان المحاسبة والمفوضية العليا للانتخابات لإقليم طرابلس، وهيئة مكافحة الفساد والمحكمة العليا لإقليم فزان، على أن تراعى التشريعات الليبية النافذة في تولي منصبي النائب العام ورئيس المحكمة العليا ويكون المنصب الأول لطرابلس والأخير لفزان.

والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أو الفرار منها كواقع على الأرض، أن هناك سلطة في طرابلس معترفا بها دوليا، ولكن هناك حكومة موازية تباشر عملها من بنغازي ويمتد نفوذها إلى 85 في المئة من الجغرافيا الليبية، وهي جزء من منظومة حكم نافذة في شرق البلاد وجنوبها تتكون من قيادة الجيش ومجلس النواب، ولديها تحالفات إقليمية ودولية واسعة، ولا يمكن تجاوزها في أيّ خطوة تتعلق بحاضر البلاد ومستقبلها. ولو نظرنا إلى علم الاستقلال الذي تم اعتماده في العام 1951 إلى حين الإطاحة بالنظام الملكي في العام 1969، ثم أعيد اعتماده في معركة الإطاحة بنظام القذافي وبعدها مع استمراره ذلك إلى اليوم، لوجدنا أنه غير بعيد عن طبيعة النظام الاتحادي. فهو يتكون من ثلاثة ألوان، وهي الأسود الذي كان راية من رايات السنوسية في إقليم برقة. وقد رفعه المقاومون إبان فترة نضالهم ضد إيطاليا ثمّ تحول إلى علمٍ لإمارة برقة في مرحلتين: الأولى في مرحلة الحكم الذاتي في عهد الاستعمار الإيطالي التي تسمى بحكومة أجدابيا، والثانية حينما استقلت برقة في أكتوبر 1949 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أثناء حكم الإدارة البريطانية. وكانت الراية السوداء بالهلال والنجمة راية الجيش السنوسي الذي شارك مع الحلفاء في تحرير ليبيا من المستعمر الإيطالي. أما اللونان الأخضر والأحمر فقد كانا من مكونات رايات وأعلام الإقليم الطرابلسي إبان فترات تاريخية مختلفة تبدأ من الحكم العثماني مرورا بالحكم القرمانلي وانتهاء بالجمهورية الطرابلسية التي أعلن عنها في عام 1918.

◄ منذ العام 2014 تم تكريس نظام الأقاليم بصورة رسمية، ولاسيما بعد انتقال مجلس النواب إلى شرق البلاد وبالتحديد إلى مدينة طبرق في أغسطس من ذلك العام

وإذا نظرنا إلى الخصوصيات الاجتماعية والثقافية، فإن إقليم طرابلس يمثّل امتدادا للمنطقة المغاربية، فيما يمثل إقليم برقة امتدادا للمشرق العربي، ويعد إقليم فزان بوابة للصحراء الكبرى وامتدادا لها وهو مرتبط بأبعاده الأفريقية. ولكنه ورغم الأهمية الجيوسياسية والإستراتيجية التي يحظى بها، والثروات التي يزخر بها، إلا أنه يبقى المحروم والمظلوم والمحكوم عليه بألاّ يستعيد مكانته التاريخية ككيان له خصوصياته الثقافية والحضارية والاجتماعية. فقد وقع بعد العام 2011 تحت سيطرة ميليشيات طرابلس ومصراتة، ثم بات جزءا من مناطق نفوذ قوات حفتر، وهو اليوم محل تجاذبات مباشرة وغير مباشرة ليس بين طرابلس وبنغازي فقط، وإنما بين روسيا وفرنسا والولايات المتحدة والجزائر وغيرها، انطلاقا من أن من يضع يده على فزان يضع يده على ليبيا ومن ورائها دول الساحل والصحراء.

السؤال: لماذا كل ذلك الهجوم على الكوني بعد طرحه فكرة سبقه إليها الكثيرون من وزراء ونواب وفعاليات اجتماعية وناشطين سياسيين محليين ومراكز بحوث ودراسات أجنبية وشخصيات سياسية وثقافية؟ والجواب أن فكرة العودة إلى نظام الأقاليم يمكن أن تكون الحل الوحيد لأزمة الصراع على الحكم بين نخب سياسية أنانية وفاسدة وعابثة بمقدرات وطنها ومعادية لمصالح شعبها وخادمة لمصالح الأجنبي. ولكن من يسيطر على الميدان لا يريد أن يتراجع عن غنائمه، ومن يمسك بمقاليد السلطة غير مهتم بالحل السياسي والخروج من المأزق. مثلا أنصار الجنرال حفتر ومن يدورون في فلكه يرون بوضوح أن الجيش يسيطر على إقليمي برقة وفزان ومناطق مهمة من إقليم طرابلس وبالتالي لا يمكنه التنازل عمّا حققه على الأرض بقوة السلاح. قد يكون هؤلاء على حق إذا اعتبروا أن نظام الأقاليم المقترح يحتاج إلى سلطة مركزية قوية قادرة على تأمين سيادة الدولة والحؤول دون انفراط عقد الوحدة الوطنية. سلطات طرابلس لا يمكنها القبول بنظام فيدرالي تكون فيه منابع ثروات الحاضر والمستقبل تابعة لبرقة وفزان، بينما ليس لإقليمها غير كثافة السكان وعبء السلطة المركزية.

عمليا، هناك نظام فيدرالي قائم حاليا في ليبيا ولكنه ممسوخ وهو أكثر تهديدا لوحدة البلاد من نظام فيدرالي مدروس ومنظم ومتفق عليه. وما جاء على لسان الكوني ينم عن وطنية صادقة وعن فهم للواقع وعقلانية في التعامل مع مفرداته. ولكن المصالح الشخصية والفئوية تطغى على الجميع، وقلّ وندر أن ترى بين أصحاب القرار فيها من يعمل على تسبيق مصالحها وتحقيق تطلعات شعبها.

9