هلا آل خليفة تمس سطوح لوحاتها بأجنحة روحها

الفنانة البحرينية تفكر في مصير الأشياء التي ترسمها، تلك الأشياء التي لا تكفي صورها لتعبر عن حقيقتها بعد أن تستسلم لحدس المبدعة.
الأحد 2019/03/31
فنانة بحرينية تخلق زمنها الخاص

أن تكتفي برسم أثر الشيء من غير أن ترسمه فذلك يعني أنك تمكنت من أن تقبض على الإيقاع الخفي لذلك الشيء ونجحت في أن تضمه إلى جوقة الكائنات التي تحلق تحت ثنايا نسيجك الروحي.

أن تعود إليه كما لو أنك لم تلقه من قبل فذلك يتطلب خبرة انطباعية وزهدا تجريديا. لأنك حينها ستفاجئ نفسك باكتشاف صور جديدة مفارقة للشيء نفسه من غير أن يكون ذاته دائما. تلك الصور هي مراياك التي عبث بزئبقها إيقاع الشيء.

التفكير في الفن قبل ممارسته

ذلك ما تفعله هلا آل خليفة وهي تفكر في مصير الأشياء التي ترسمها. تلك الأشياء التي لا تكفي صورها لتعبر عن حقيقتها بعد أن تستسلم لحدس الفنانة. فالصورة هي واحدة من تجليات الشيء المرسوم. فآل خليفة تحتفي بفكرتها عن الشيء قبل أن ترسمه. لذلك فإنها حين ترسم تكون محمولة على أصوات تنبعث كما الروائح من مكان قصي.

فعل الرسم لديها هو نوع من البحث عن عناصر الحدث. فهي لا ترى الأشياء بمعزل عما تنطوي عليه من معان وما يشكله مرورها من وقائع. ستكون لها دائما مروياتها التي يفهمها العالم الذي يعيدها باستمرار إلى ذاتها، وهي مصفاة رقيقة يمكنها أن تمتحن كيلومترات طويلة من العاطفة. وهو ما يكشف عنه ميلها إلى رسم التوتر في إشارة إلى الألم.

الصورة هي واحدة من تجليات الشيء المرسوم
الصورة هي واحدة من تجليات الشيء المرسوم

هذه رسامة لا تسعى إلى تحييد الألم، ولا ترغب في إزاحته عن طريق وصفه بل تحاول بصبر أن تبقيه إلى جانبها باعتباره دليلا في عتمة الروح. إنه الدليل الوحيد الذي لا يخون.

رسومها التجريدية التعبيرية تبدو كما لو أنها اقتطعت من عالم كلاسيكي فخم. قد يكون السبب في ذلك تمكن الفنانة من حرفة الرسم غير أن الإيقاع الذي ينبعث من تلك الرسوم ينفتح على جنات موسيقية لا بد أن تجد فيها العين الخبيرة نوعا من الإطراء على الحياة لم يتقنه إلا الشعراء.

لا يزال الفضاء ممكنا

في عالم هلا آل خليفة يمتزج الشعر بالموسيقى لا ليشكلا خلفية للصورة بل ليكونا بمثابة ملهمين لطريقة التفكير في الصورة. وهو ما تفعله الفنانة في حياتها اليومية حين تقدم التفكير في الفن على الممارسة.

ولدت الشيخة هلا آل خليفة في المنامة وحصلت على شهادة البكالوريوس في الفنون من جامعة تاتفتس ببوسطن عام 1999 ثم على شهادة الماجستير في الاختصاص نفسه من كلية سليد للفنون بلندن.

عملت سنة واحدة في تدريس الفن بجامعة البحرين. بعدها شغلت منصب رئيس قسم الفنون والتعليم بمتحف الفنون الإسلامية بقطر بين سنتي 2008 و2011 ثم انتقلت للإشراف على التعليم في مركز الفنون العام ورأست مقر الإقامة الفنية “مطافئ” وأشرفت على تنظيم العديد من المعارض العربية المهمة. وهي تعمل الآن مديرة للثقافة والفنون بهيئة الثقافة والآثار.

أقامت آل خليفة أكثر من عشرة معارض شخصية. أذكر منها “البحر” الذي أقامته في عمارة بن مطر بالمحرق عام 2013 و”المصير” الذي أقامته عام 2018. وقبل المعرض الأخير بحوالي سنتين أقامت في قاعة “أثر” بجدة معرضا بعنوان “وحولت جروحها أجنحة”.

تمكنت آل خليفة مبكرا من أدواتها الفنية بسبب قوة موهبتها وكفاءة دراستها وهو ما جعلها قادرة على التحليق في فضاء شخصي، صار يتسع مع الوقت بحيث تمكنت بمهارة من صياغة عالم، صارت عناصره تستدعي بعضها البعض الآخر من داخل الممارسة الفنية، الأمر الذي مكن الفنانة من التحكم ببراعة بما تلتقطه حواسها من مرئيات فصارت لا تكتفي بما تراه من هيأة الشكل بل تذهب إلى أبعاده الخفية لتفلسف موقفها من العالم.

قبل انتقالها إلى الفنون المعاصرة اختارت آل خليفة أن يكون الرسم مرجلا لوعيها وطريقة تفكيرها المزدوج في الحياة وفي الفن معا ولم يكن تصوير العالم الخارجي يقف على الدرجة الأولى من سلم شغفها بالفن. كان لديها ذلك الحس المأساوي العميق الذي عبرت عنه من خلال كدح الغواصين في معرضها “البحر” وهو المعرض الذي كرست الرسامة فيه مفهوم “النداء الغامض” الذي طورته في معارضها اللاحقة.      

لقد شق ذلك النداء بآهاته الشقية الفضاء الذي صار ممكنا بطريقة مختلفة. تحول الفضاء بين يديها إلى متاهة تعبيرية بعد أن كان مجرد خلفية هي أشبه بالسطح المحايد.

هلا آل خليفة رسامة كائنات تركت أثرها واختفت.

في رسومها الأولى التي رأيتها منذ حوالي عشرين سنة كانت هناك حركة قابلة للتجسيد. لم تكن اللوحة لتكفي ساحة للصراع بنوعيه، القائم والمحتمل. لذلك كان متوقعا أن تتجه الفنانة إلى التجهيز والتركيب وصناعة أفلام الفيديو. لا يمكن الحديث هنا عن حيوية مضافة أو مستعارة من مكان آخر بل يمكن القول إن الفنانة تكمل مسيرتها وتتم ما كانت فعلته في أوقات سابقة. كانت هناك رغبة مبيتة في التفاعل الحر مع المشاهد.

تضرب بأجنحة خفية

هلا آل خليفة رسامة كائنات تركت أثرها واختفت
هلا آل خليفة رسامة كائنات تركت أثرها واختفت

أمام تلك الرسوم الأولى شعرت أن الرسامة ترغب في أن تقول فكرتها بطريقتين أو أكثر. وهو ما لم يكن يسمح به الرسم بطبيعته. لذلك كانت كل لوحة بمثابة صيحة ضجرة حاولت من خلالها الرسامة أن تفرض نوعا خاصا من العلاقة بالمتلقي. ذلك النوع الذي ينقل الشعور الداخلي كما هو من خلال تيار يجمع بين الفنانة ومتلقي أعمالها في لحظة انبهار واحدة.

حينها لا يكتفي المتلقي بمشاهدة اللوحة. متعته تبدأ بتلك المشاهدة غير أنها تستمر حين يصاب بقلق الفنانة الذي ينتقل إليه مثل عدوى. بسببها يصبح فعل المشاهدة تجريبيا كما هو فعل الرسم. وبذلك تكون آل خليفة قد نجحت في صنع نوع مشاهديها وصياغة طريقة تفكيرهم في فنها.     

الخفاء الذي كانت تستثمر فيه الفنانة مشاعرها صار في ما بعد مجالا خصبا للتفكيك كونه فعلا فلسفيا يجسده التصوير. آل خليفة ترى الظاهرة وتتبناها باعتبارها رؤيا شخصية قابلة للحذف والإضافة. هناك ما يُمحى دائما. تقبض الفنانة على الظاهرة لتفكك عناصرها وتعيد من ثم تركيب تلك العناصر جماليا في سياق ما تفكر فيه وما تحلم به، ولتؤسس من خلال ذلك التركيب المفاجئ جماليات لظواهر فنية جديدة.

تفكر في الفن الاجتماعي كما لم يفكر فيه فنان عربي معاصر. وهي هنا تنظر في اتجاهين. هناك بنية تراثية مغيبة في مقابل إنسان متمرد.

ليس المقصود هنا الصراع بين التراث والمعاصرة فتلك معادلة حداثوية صارت جزءا من الماضي الفني الذي خبرته بعمق. الفنانة هنا تتبنى أفكار عصر ما بعد الحداثة حيث لا يشكل التراث عدوا، لا في مضمونه ولا في أشكاله. ليست آل خليفة معنية بمفردات التراث أو الواقع بقدر عنايتها بالأثر الإنساني الذي تتركه تلك المفردات. ما ترمي إليه الفنانة يتخطى المعنى المباشر لوقع مرور الزمن على الأثر الذي تسعى إلى استلهامه جماليا وتستعين به نفسيا. إنها بطريقة ملخصة تعيد صياغة معنى العلاقة بالزمن وهو ما عالجته في “المصير”. ما حدث في الماضي وما سيقع في المستقبل يمكن أن يصنعا من وجهة نظرها زمنهما الخاص. وهو زمن يقع خارج حركة عقارب الساعات. إنه الزمن الذي لا يمس الكائنات حين يخترقها. ترسم آل خليفة لوحاتها كما لو أنها تضرب سطوحها بأجنحة خفية.

آل خليفة حين ترسم تكون محمولة على أصوات تنبعث كما الروائح من مكان قصي
آل خليفة حين ترسم تكون محمولة على أصوات تنبعث كما الروائح من مكان قصي

 

9