هكذا فاز تبون فوزا كاسحا

لحسن حظ الرئيس الفائز عبدالمجيد تبون أن الجزائريين شأنهم شأن الشعوب العربية الأخرى قد طلقوا السياسة وأداروا ظهورهم للسياسيين واختاروا الصمت كممارسة سياسية وكأسلوب رد على السلطة الحاكمة.
الجمعة 2024/09/13
الرحلة وصلت إلى وجهتها الأخيرة

أن يتم “انتخاب” الرؤساء العرب بالغالبية المطلقة من الأصوات، وأن تحسم نتائج الانتخابات من دورها الأول دون الحاجة إلى تضييع الوقت وإثارة الجدل والترقب، فتلك هي طقوس “الديمقراطية” في جمهوريات البلاد العربية التي تحتكم إلى مبدأ “الأقلية تحكم الأغلبية الصامتة”. ولا غرابة أيضا في أن يتم تطبيق نظرية الوفاء الجماهيري للزعيم عادل إمام بتمكين المتوفين من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات لصالح القائد “الروحي”، أو أن يتم تزويد مراكز التصويت بتكنولوجيا ذكية توفر على الناخب العربي عناء التنقل وكلفة المواصلات. لكن أن تتضارب أرقام نسب المشاركة ونتائج الانتخابات، وأن يبدي الفائز امتعاضه من ذلك، فهذه سابقة لم تحدث في أعتى ديمقراطيات العالم!

نتائج الهيئة الوطنية للانتخابات قفزت قفزة صاروخية في ظرف ثلاث ساعات من العملية، وكشفت عن شرخ كبير ما بين النسب التي حققها كل مترشح والنسبة الإجمالية للمشاركة. وهو ما دفع الرئيس المنتهية ولايته عبدالمجيد تبون، ورغم فوزه الكاسح بنسبة 94.65 في المئة، إلى انتقاد بيان الهيئة وأرقامها “الضبابية” التي تسيء إلى فوزه وإلى شفافية العملية، وذلك في بيان مشترك حمل توقيع مديريات الحملة الانتخابية للمرشحين الثلاثة.

مشاركة الرئيس تبون في إظهار الامتعاض يمكن وصفها بأنها تنصل من أخطاء هيئة الانتخابات الكارثية من باب إبعاد الشبهة في مسألة تضخيم النتائج. وفيها من الرسائل المبطنة ما يشير إلى أن النتائج المعلنة لم تكن مبرمجة بدليل حدوث خطأ جسيم فيها لا يقع فيه تلاميذ الطور الإعدادي. حتى مشاركة المنافسين في هذا البيان لا يمكنها تغيير واقع ونتيجة الانتخابات النهائية، وهي إما مطالبة بإعادة عملية فرز الأصوات أو العملية من أصلها، ولكنها على الأقل تبعد شبهة المرشح “الكومبارس” أو “الأرنب”.

◄ مع الفشل الاقتصادي الذي ألقى بظلاله على جميع مناحي الحياة في الجزائر، كان العزوف الشعبي الواسع حاضرا ومكّن الأقلية من فرض منطقها على الأغلبية الصامتة

لحسن حظ الرئيس الفائز أن المنافسين الاثنين يرفضان النسبة ولا يرفضان النتيجة النهائية، وينددان بالخسارة المذلة دون التشكيك في نزاهة الانتخابات وأحقية تبون بلقب “الفائز”. ولحسن حظه أيضا أن الأغلبية الصامتة قد ساهمت في فوزه الكاسح، وأن المعارضة التي أفرغت من محتواها لا تملك مشروعا ولا زعيما سياسيا قادرا على منافسة السلطة على كرسي الرئاسة. ولحسن الحظ أيضا أن الجزائريين شأنهم شأن الشعوب العربية الأخرى قد طلقوا السياسة وأداروا ظهورهم للسياسيين واختاروا الصمت كممارسة سياسية وكأسلوب رد على السلطة الحاكمة.

داخل الجزائر لا وجود لإعلام يمكنه تسليط الضوء على تفاصيل العملية الانتخابية وتضارب النتائج المعلنة وانتقاد ما حدث ولو بمهنية إعلامية بعيدة عن التحيز. لهذا ليس غريبا أن يتجاوز الإعلام سقطة الأرقام في انتخابات الرئاسة في صمت، وأن يتم التعقيب على ما حدث باقتضاب شديد وفي حدود ما يسمح به مقص الرقيب.

لم تعد الصحافة تتمتع بالسقف العالي من الحريات التي وفّرها نظام الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة عندما كان يسمح بنشر الكاريكاتير الساخر والمقال الناقد والناقم على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، حتى إن الماكينات الإعلامية التي عارضت النظام في فترة أدخلت بيت الطاعة طوعا وكراهية، وتحولت إلى بوق ينشر البروباغندا بعد أن وضعت أقلامها في خدمة من يموّلها ووافقت على مضض على الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها حتى يسمح لها بمزاولة عملها. لذلك لا تستغرب تشابه عناوين ومواضيع افتتاحيات الجرائد والمواقع الإلكترونية ومباركتها فوز تبون الكاسح رغم كل ما حصل.

ولأنه لا وجود لمشهد سياسي حقيقي في الجزائر ولا لعمل حزبي باستثناء عمل “أحزاب الموالاة”، ولا معارضة سياسية حقيقية سواء في الداخل أو الخارج يمكنها أن تنافس السلطة وتوقف عجلة قطار تبون نحو الولاية الثانية، فإن القطار وصل إلى الوجهة الأخيرة دون عقبات وبقليل من الجهد.

ولكي نكون منصفين فإن نجاح تبون الكاسح لا يحتاج إلى تزوير لأنه يأتي كنتيجة منطقية وحتمية لممارسات أفرزت تصحرا سياسيا. ومع الفشل الاقتصادي الذي ألقى بظلاله على جميع مناحي الحياة في الجزائر، كان العزوف الشعبي الواسع حاضرا ومكّن الأقلية من فرض منطقها على الأغلبية الصامتة.

9