هشام مشبال: الكتابة وقودي الحقيقي لفهم الوجود المُعقّد

ثمة اهتمام راهن من قبل الروائيين العرب بمقاربة وتوظيف القضايا التاريخية في أعمالهم الروائية لتقصّي جذور أزمات راهنة استفحلت، أو للبحث في الماضي عن طوق نجاة ينجيهم من واقع بات عصيّا على الفهم أو التفسير. “العرب” حاورت الروائي والناقد المغربي هشام مشبال عن أحدث رواياته التي وظّف فيها التاريخ، وأعماله الروائية الأخرى.
هشام مشبال، روائي وناقد مغربي، تعد روايته الجديدة “بِيت النّار” هي الرابعة في مشواره الروائي بعد “أحلام الظلمة”، “الطائر الحر” و”أجراس الخوف”، فضلا عن الكتابات النقديّة ومنها كتابه “البلاغة والسرد والسلطة في الإمتاع والمؤانسة”، ومشاركاته في كتب جماعية مثل “النقد والإبداع والواقع” و”بلاغة النص النثري”.
صدرت لمشبال مؤخرا رواية بعنوان “بِيت النّار” عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، يقول عنها “هي رواية عن التحولات الاجتماعية والثقافية الجذرية التي أصابت منطقة هامة في شمال المغرب؛ قبائل ‘غمارة’ الشاسعة، وهي قبائل لها امتداد حضاري وتاريخي طويل، وقد مثّلت تاريخيا إحدى أهم المناطق التي أولت اهتماما حقيقيا للعلم والدراسات القرآنية، تخرّج في معاهدها آلاف الفقهاء والباحثين في علوم الدين، وهي منطقة عرفت عبر تاريخها احتلالين: برتغالي وإسباني، وشهدت حربا قاسية في العشرينات من القرن الماضي أو ما يعرف بحرب الريف، وتم قصفها بالأسلحة الممنوعة دوليا مما أدى إلى استسلام الأمير محمد عبدالكريم الخطابي والمجاهدين”.
ويتابع مشبال “في سياق هذا التحول فكّرت في كتابة الرواية، إيمانا مني بأن هذا الفضاء الهام والمُهمّش تاريخيا يجب استحضاره عبر الكتابة الفنية، أقصد إعادة التفكير فيه جماليا وإبراز التفاصيل التي تُشكِّل صورته العامة، خصوصا أنني أصوّر فضاء كان رمزا للتعايش بين المغاربة والإسبان واليهود في مرحلة معيّنة خلال فترة الحماية، يمكن القول إن ‘بيت النّار’ الذي يدل على فضاء معروف في قرى المغرب؛ تلك الغرفة التي تحتوي على الكانون الذي يستخدم في التدفئة، ليس سوى إشارة إلى هذا العالم الذي يحترق”.
وعن أوجه اختلاف هذه الرواية عن رواياته السابقة، يقول مشبال “كنت أفكر في الذات وهي تواجه واقعا بائسا ومأساويا كما في رواية ‘الطائر الحر’، أو تواجه الاستبداد وغياب الحرية والبحث عن الحب باعتباره المُنقِذ كما في رواية ‘أجراس الخوف’، أما في ‘بيت النّار’ فالذات تواجه عِللها الخاصة وتاريخها المُهمَش؛ إنها تبحث في ماضيها عن حاضرها، عما يمكن أن يصنع بريق الفرحة، أستطيع القول إنها رواية الذات والقيم المتحوّلة”.
في عمله السردي الأول “أحلام الظلمة” يروي مشبال سيرة معتقل سياسي، وعن العمل يُبيّن أنه كان فرصة بالنسبة إليه لاختبار قدراته الأدبية، هل هو كاتب أم مجرد حالم؟ ومن ثم وجدها فرصة لتعميق البحث في الشأن السياسي التاريخي المغربي من خلال شخصية محمد الأمين مشبال الذي حُكِم عليه بـ22 سنة سجنا. وكانت التجربة تزاوج بين ما هو تسجيلي مرجعي وبين ما هو تخييلي جمالي، وهي السيرة التي أدخلته إلى عالم الكتابة الروائية، وتعلّم منها الكثير.
يطرح مشبال في روايته “أجراس الخوف” الصادرة عام 2014 فكرة الحب في مقابل حياة الخوف والخنوع في مجتمعات يحكمها الاستبداد. ويوضح “بدأت كتابة ‘أجراس الخوف’ قبل ثورات الربيع العربي، وكنت أفكر في بطلة مناضلة تحلم بالأفضل، وتحب شخصا عليلا خائفا مترددا ينتمي لطبقة غنية، كنت أريد القول إن الحب يُنقذنا من الخوف ومن العلل العميقة التي تنبع من الداخل، لكن حدثت الثورات المفاجئة في عالمنا العربي، ووجدت بطلتي تسير تدريجيا نحو الموت مثلما حدث لأحلامنا وهي تنهار أيضا بالتدرّج”.
ويضيف “صحيح الرواية عالجت موضوعات كثيرة ومترابطة أهمها تراجع العدالة وانهيار القيم من خلال هدم بيت الأستاذ نجيب، لكنها في النهاية تُعبّر عن الإنسان الذي يحلم بالتغيير في عالم فقد معنى الحرية، وعلى الرغم من النظرة السوداوية، يظل الأمل قائما في الرواية، لقد كان خروج عاطف ومشاركته في المظاهرة المنددة باغتصاب حبيبته خير دليل على أن الحب يتفوّق على الخوف”.
ويرى مشبال أن الكاتب جزء من الواقع المأزوم، ليس شرطا أن يعاني الكاتب واقعيا ليكتب عن المعاناة، لكن من الضروري أن يحسّ بهموم الناس والمطحونين، فالرواية لا تصنع وصفة للسعادة والفرحة؛ إنها تثير أسئلة عميقة وتُحرِّك المياه الراكدة.
ويُبيّن الكاتب “في روايتي ‘الطائر الحر’، كان بطلي يحلم بوضع ثقافي أفضل، ويأمل مثل كل شاب أن يحقق ذاته بعد تخرجه في الجامعة، لكن الإكراهات كثيرة؛ الواقع كان أكثر سوءا ولم يُشجّع على المُضي، وأتفق مع الناقد الذي قال إن الرواية تُصوّر جيلين مأزومين، لأننا في النهاية امتداد لإخفاقات سابقة، لست سوداويا، لكن الرواية تنظر إلى الجانب المظلم وتحاول أن تنيره، إنها تكشف الخفايا والأسرار وتفكّ اللغز.. لغز الذات”.
يلفت هشام مشبال إلى أنه يستمتع بالكتابة، ويجد فيها علاجا نفسيا، “أشعر أني أفرغ شحنات الغضب والقلق والكآبة والأرق، الكتابة تمدنا حياة ثانية نفكر من خلالها في السبل الأكثر نجاعة لنستمر في الحياة بشكل أفضل، ومن خلالها أفهم ذاتي ومجتمعي، أتلمّس عللي العميقة وأسعى إلى تفسيرها، الكتابة تعني لي الحياة. دائما أفكر من خلال سؤال يرافقني: ماذا أريد؟ هذا السؤال يجعلني أفكر روائيا في شخصيات اختزنتها الذاكرة، الكتابة وحدها تفسّر لي ما الذي حدث وما قد يحدث، إنها وقودي الحقيقي لفهم هذا الوجود المُعقّد”.
درس مشبال النقد الأدبي ومارسّه، يقول “النقد أحيانا يُقيّد الكاتب ويجعله أسيرا لأفكاره النقدية، أحاول التخلص من تلك السلطة، خصوصا أنني أنتمي إلى مدرسة ترى في النقد مساحة رحبة للتعبير وليس أنواعا محددة ومناهج وقواعد معينة، النقد تفاعل إنساني مع النصوص واكتشاف لأسرارها والرواية تعبير جمالي عن العالم المُعقّد، إنني في النقد أصدر عن تصوّر إنساني للأدب، يتلمّس في النصوص الجانب الإنساني والأحاسيس العميقة، وهذا ساعدني كي أسعى إلى كتابة نصوص تحضر فيها الذات الإنسانية، وتحضر معها القيم الجميلة؛ الحرية والعدالة والحب”.
ويلفت مشبال إلى أنه مسكون بهاجس الحرية؛ الظلم والاستبداد، غياب الثقافة، سطوة الجهل والخوف العميق الذي يسكننا قضايا تشغله باستمرار، لكنه يفكر فيها روائيا من خلال الحبكات والشخصيات وليس من خلال مقولات نظرية أو شعارات، ومن ثم يحاول أن يبني عالما روائيا ممتعا يمرر من خلاله أفكاره.
ويُفيد الكاتب المغربي بأنه كثيرا ما يعاني في اختيار العناوين، ففي “الطائر الحر” لم يهتدِ لعنوان واستعان بأستاذه محمد أنقار، أما باقي العناوين فمستمدة من الروايات نفسها، وتعكس أطروحتها، ففي “بيت النّار” على سبيل المثال يعني في المغرب غرفة خاصة بالتدفئة تحتوي على الكانون الذي نقاوم به البرد، وهو علامة مميزة للريف المغربي، لكنه في النص يكتسب دلالات أخرى منها الهوّية الضائعة أو المختلة، احتراق القيم الإنسانية واحتراق الإنسان نفسه.