هدى السراري ليبية جريئة تدير شبكة إعلامية بالكثير من التحدي

بالكثير من الجرأة تتقدم هدى السراري في تجربتها الإعلامية بخلفية الشاعرة والأديبة التي تسعى دائما لمزج الواقع المؤلم بقليل من الخيال المبدع ضمن مساحة حركتها العملية وآليات النشاط الإعلامي الذي تديره برؤيتها الخاصة في اتجاه ترسيخ قناعاتها كامرأة تصارع من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة، وتدافع عن قيم التحرر والحداثة في بلادها ليبيا وفي المنطقة العربية ككل.
في عام 2019 حلت السراري في المرتبة العاشرة ضمن قائمة أهم 30 شخصية نسائية الأكثر تأثيرا في العالم العربي وفق مجلة “أرابيان بيزنس” المتخصصة في عالم الأعمال في دولة الإمارات العربية المتحدة، لتكون بذلك المرأة الليبية الأولى التي تصنف عربيا وعالميا من الشخصيات الأكثر تأثيرا في العالم العربي حيث سيدخل هذا التصنيف ضمن التصنيفات العالمية مستقبلا.
واقع جديد
وفي تقديمها لشخصية السراري وصفتها المجلة بأنها المرأة والإعلامية التي أرادت أن تظهر القصة غير المحكية لمجتمع ذي ثقافة غنية في شمال أفريقيا حيث يصمم هذا الشعب على الحياة وسط حرب قاسية ومدمرة. وأضافت أن الصحافية والشاعرة التي دربت وعلمت نفسها ذاتيا استطاعت أن تحقق كل هذا عبر المجموعة الإعلامية الناطقة باللغة العربية “218” والتي أصبحت الأكثر مشاهدة في ليبيا.
ومن مقر الشركة في عمان بدأت تلك القناة عملها في عام 2014 حيث قدمت طائفة واسعة من الأخبار وبرامج الترفيه والوثائقيات والرياضة وبرامج عن المجتمع المدني تركزت حول الحياة اليومية للمواطنين الليبيين.
قناة 218 تعتبرها السراري ضرورة فرضها الوضع الذي استجدّ بعد ثورة فبراير في ليبيا وألقى بظلاله على الليبيين، حيث صار الواقع يحاصرهم في الشأن السياسي والحوادث والصراعات، متجاهلاً حق المُشاهد الأساسي في الترفيه
ترى السراري أن قناة 218 هي ضرورة فرضها الوضع الذي استجدّ بعد ثورة فبراير في ليبيا وألقى بظلاله على الليبيين، حيث صار الواقع يحاصرهم في الشأن السياسي والحوادث والصراعات، متجاهلاً حق المُشاهد الأساسي في الترفيه، ورؤية المختلف والمميز الذي قد لا تدركه عين المُشاهد في محيطه ويطمح إلى معرفته أو مشاهدته. القناة هي ضرورة ومحاولة أيضاً للعودة إلى النمط الطبيعي والمفترض الذي يودّ المُشاهد رؤيته.
والسراري المولودة عام 1974 سيدة تفضّل الهدوء والاستقرار، ولكنها تميل إلى المغامرة دون أن تطيح بهالة الغموض التي تحاول أن تطمئن إلى الإقامة داخلها، ولديها نزوع إلى الحذر مع اندفاع في اتجاه تحقيق أهدافها، كما أعطتها خصوصية الشاعرة رؤية مختلفة للحياة والعمل، لذلك كانت علاقتها بالإعلام دائما جزءا من تكوينها النفسي العام، وعندما اتجهت إلى الإعلام المرئي لم تبتعد كثيرا عن تقنيات الكتابة الشعرية في استلهام الصورة التي تعرضها على شاشة تشاهد مشاهديها قبل أن يشاهدوها.
درست السراري إدارة الأعمال إلى أن تخرجت بشهادة البكالوريوس من الجامعة الليبية، ثم دشنت مسيرتها الإعلامية كصحافية مراسلة في صحيفة “العرب” اللندنية، وكاتبة مقالة أسبوعية عن الموروث الشعبي الليبي في صحيفة “القبس” الكويتية.
كانت الكتابة الصحافية بالنسبة إليها امتدادا لهوسها العاقل وعقلها المهووس بالأدب والشعر، ولإدمانها القراءة والاطلاع على الآداب المحلية والخارجية، ومحاولتها طرح الكثير من الأسئلة المهمة في محيطها، تتحدث عن علاقتها بالكتابة فتقول إنها “بدأت في مرحلة مبكرة منذ سنّ المراهقة كمهتمة بالشأن الأدبي، ثم في المرحلة الجامعية عندما تحوّل ذلك الاهتمام إلى نشاط صحافي وثقافي، من خلال عملي كصحافية مستقلّة”.
شبكات الإعلام المتقاطعة
اقترنت بالكاتب والصحافي الليبيّ مجاهد البوسيفي الذي كان معارضا للنظام الجماهيري ومقيما في هولندا، ولكن دون أن تقطع صلتها ببلادها التي كانت تزورها باستمرار، وقد تحدثت عن ذلك في مقابلة صحافية فقالت “في الواقع لم أكن أعيش حياة اللجوء السياسي بالشكل المتعارَف عليه. نعم، تزوجت من لاجئ سياسي، لكنني لم أكن أنا اللاجئة السياسية، وحين قررت الزواج من مجاهد كنت لا أزال أعيش في ليبيا، وبعد زواجنا داومت على زيارة ليبيا بانتظام، واستمرّت زياراتي إليها حتى العام 2009، وتوقفت بعد ذلك عندما وصلتني تحذيرات من العودة إلى بلادي، بسبب محتوى مقابلة كنت قد أجريتها مع قناة ‘الحرّة’ الأميركية”.
جماعة الإخوان وحلفاؤها يتعمّدون استغلال جميع المنصات الإعلامية في طرابلس لفائدة مشروعهم الهادف إلى السيطرة على الوضع العام في ليبيا، لذلك كان من الطبيعي أن ترفض السراري أن تكون فدائية في كتيبة الإعلام الإخواني
عندما تحول زوجها إلى الدوحة للعمل في قناة “الجزيرة” كان عليها أن تصاحبه في رحلة حملت في ثناياها الكثير من الغموض، فالعاصمة القطرية كانت تعج بالإعلاميين القادمين من مختلف الدول العربية، وبمن كانوا محسوبين على المعارضات العربية المقيمة خارج أقطارها، في تلك الأثناء بدأت تظهر شعارات الشرق الأوسط الجديد والتغيير السلمي ودمقرطة المنطقة، وفي عام 2007 كانت السراري قد بدأت العمل كمنتجة فقرات ثقافية في التلفزيون القطري، وعادت لتمارس عشقها للكتابة الصحافية عبر صفحات “العرب”، ثم اتجهت إلى عالم الراديو من خلال إذاعة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع قبل أن تنتقل لترأس إدارة العلاقات العامة الإعلامية في “مركز الدوحة لحرية الإعلام” لمدّة عام ونيّف، وهو المركز الذي قالت عنه آنذاك إنه يهدف إلى تقديم الدعم المعنوي للصحافيين والتأكيد على أنهم ليسوا وحيدين بل إن هناك مراكز حقوقية تساندهم، وهي تقول إن البعض كان يعتقد أن مركز الدوحة يعنى فقط بحماية واحتضان الصحافيين المهددين وتوفير مكان لجوء لهم في الدوحة في إطار إمكانيات المركز ولكن دوره تخطى ذلك ووصل إلى أماكن النزاع والحروب وتقديم المساعدات المعنوية والمادية.
عندما انطلقت أحداث فبراير 2011 في شرق ليبيا كان الإطار العام جاهزا لدعمها، فالدور القطري كان واضحا ومعلنا، وقوى الإسلام السياسي كانت مهيأة لتأكيد جاهزيتها، وكانت الدوحة قد تحولت إلى غرفة عمليات كبرى على جميع الأصعدة والمستويات، ولاسيما المجال الإعلامي الذي تم تجهيزه بشكل كامل لريادة وقيادة ما سمي لاحقا بالربيع العربي.
في الثلاثين من مارس 2011 تم إطلاق بث قناة “ليبيا لكل الأحرار” من الدوحة، وهي مملوكة لشركة الريان القطرية، مع إشراف عام للإعلامي المقرب من الديوان الأميري محمود شمام، وتم تكليف السراري بإدارة القناة في ظل وضع يكتنفه الغموض، وتبدو فيه الكثير من الأصابع وهي تتحرك بأهداف متناقضة، لذلك كان عليها أن تدفع الفاتورة كامرأة في مجتمع ينقل أفراده تصوراتهم حول النساء حيثما انتقلوا، وتعرّضت للتهديد والترهيب والتحريض ضدّها ولكل أنواع العنف اللفظي، وفق تعبيرها، وهي تقول “ذات يوم ستكون لديّ الشجاعة بما فيه الكفاية وسأكتب عن تجربتي المرّة تلك وكيف تخطّيتها”، الحقيقة أن حتى دعاة الحرية والديمقراطية والمساواة ومن كانوا يرفعون شعارات الثورة، كانوا متورطين في مواقفهم السلبية من دور المرأة في قيادة التحولات التي تعرفها ليبيا والمنطقة.
نحو فضاء الاعتدال
في يوليو 2014 استقالت السراري من إدارة قناة “ليبيا الأحرار”، في تلك الأثناء كانت طرابلس تشهد انقلابا نفذته ميليشيات “فجر ليبيا” على نتائج الانتخابات البرلمانية، وكانت جماعة الإخوان وحلفاؤها قد انطلقوا في استغلال جميع المنصات الإعلامية في طرابلس والدوحة وإسطنبول لفائدة مشروعهم الهادف إلى السيطرة على الوضع العام في ليبيا، ومن الطبيعي أن ترفض السراري ذات التوجهات التقدمية الليبرالية أن تكون فدائية في كتيبة الإعلام الإخواني بإشراف مباشر من القيادي علي الصلابي.
غيّرت السراري تموضعها، وغادرت الحاضنة القطرية في اتجاه فضاء الاعتدال الذي يحقق لها مساحة أوسع من التعامل مع قناعاتها، وذلك بالتزامن مع حرب فجر ليبيا ومعركة “الكرامة” التي أطلقها الجيش الوطني في شرق البلاد. ومع التحولات الأخرى الدائرة في المنطقة، ولاسيما بعد الإطاحة بحكم الإخوان في مصر، وفي السادس من أغسطس 2015 أطلقت الإعلامية الليبية البارزة قناة “ليبيا 218” في إشارة إلى مفتاح ليبيا للهاتف الدولي، وهي قناة تراوحت مضامينها بين المضامين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والوثائقية والرياضية مع متابعات خبرية سعت لأن تكون ذات صدقية وازنة، كما سعت من خلال برامجها لأن تكون جامعة لمختلف فئات المجتمع ولجميع الألوان الفنية والثقافية والتراثية والشعبية، وأن تسبق إلى كسر الجمود من حول نجوم الفن والثقافة ممن تم تهميشهم بدعوى ولاءاتهم السابقة لنظام الراحل معمر القذافي. وفي منتصف يوم الثامن والعشرين من أكتوبر 2017 أعلنت السراري المديرة عن إطلاق البث التجريبي لقناة 218 الإخبارية التي ترصد الواقع الليبي وتقدم النشرات الإخبارية السياسية والاقتصادية والفنية والرياضية وغيرها.
وتعتبر السراري أن “الثقافة والفن والإبداع والترفيه من أرقى أنواع المقاومة، والمحرّك الرئيسي لوجدان الشعوب، والأداة المهمة لمواجهة قسوة الواقع”، ومن أجل ذلك حاولت أن تجعل من قناة 2018 التي تبث برامجها من الأردن فضاء للتنوع الثقافي والفني، وساعة لاستعراض ألوان من التراث الليبي الذي يمكن أن يتجسد في صورة أو نغم أو حركة أو بيت من الشعر، مع “مجرودة” و”غناوة علم” و”شتاوة” ومقطع من “المالوف”، وومضات تأخذ المشاهد عبر مسافات العبقرية الحضارية لبلد لا يزال يحتاج إلى جهود جدية لاكتشافه، كانت رغبتها الأولى أن يجد الليبيون في ظل غابة الفضائيات المؤدلجة والناشرة بعنف لخطاب الكراهية قناة مختلفة تخاطب الوجدان وتبعث بعض
الدفء في نبض المواطن البسيط الذي وجد نفسه في خضم لا يعنيه من صراعات يقودها المتنافسون على السلطة والثروة والسلاح.
ليبيا وخارطة الإعلام

قناة 218 تحظى بنسبة عالية من المشاهدة، فهي بقناتيها الفرعيّتين العامة والإخبارية تعكس واقع اليوم، وكذلك تقدم صورة عن القادم المأمول
أن تكون السراري أول امرأة ليبية وعربية تدير شبكة تلفزيونية فذلك أمر لافت، وهي تقول “أودّ أن أساهم في وضع ليبيا ضمن خريطة التلفزيون والإعلام العربي كما كانت ذات يوم بعيد، وذلك من خلال العمل على صقل مواهب وخلق قدرات ليبية قادرة على التميّز والاستمرار، وصناعة محتوى ليبي يمكنه المنافسة والبقاء، حتى وإن انتهت العناصر والظروف التي ساهمت في صناعته أو خلقه”.
وترى السراري أن الحياة مساحات مختلفة، والإنسان هو العنصر الأساسي الذي يشغلها ويجعلها مترابطة، باهتمامات متفاوتة كاختلاف تلك المساحات. لذلك فهي لا تتصوّر أن يحيا الشخص بكل اهتمامه في مساحة واحدة بمعزل عن باقي المساحات. تقول “الواقع نحياه بالضرورة أو بالشغف، والخيال هو الزاد لكي نحيا ذلك الواقع. جُلّ ما عشته وما أعايشه في الواقع الآن، عشته قبل ذلك في خيالات متعددة”. المقربون منها يرون فيها سيدة حازمة ومثابرة وطموحاتها لا تقف عند حد، وهي تعتبر أن “لا وصفة خاصة أو مميزة للنجاح. ثمة شخصيات مميزة قادرة على النجاح. والصعاب موجودة أمام الطرفين أو الجنسين، ما يهمّ لتذليلها هو الرغبة الواثقة، والشغف الذي لا ينضب، والاجتهاد المستمر”.
وتدافع السراري من خلال شبكتها الإعلامية عن فكرة أن تكون ليبيا دولة واحدة موحدة حديثة ومنفتحة ومتطورة وحرة وديمقراطية وخالية من الإرهاب والتطرف، وأن تكون السلطة فيها سلطة القانون وحده، وأن يعتاد أبناؤها على مبدأ المساواة والتسامح والقبول بالآخر، وهو ما جعل قناة 218 تحظى بنسبة عالية من المشاهدة، فهي بقناتيها الفرعيّتيْن العامة والإخبارية تعكس واقع اليوم، وكذلك تقدم صورة عن القادم المأمول وعن المجتمع الذي ترنو إليها النخب المستنيرة اليوم وغداً.