هدوء حذر يخيم على طرابلس بعد إسقاط الدبيبة "إمبراطورية غنيوة"

تقارير محلية، تكشف خلفيات صراع مكتوم بين الدبيبة و"غنيوة" المتنامي النفوذ، وصولا لاختطاف رئيس القابضة للاتصالات الذي أشعل فتيل قرار الإطاحة به وحشد القوات.
الثلاثاء 2025/05/13
نهاية حقبة وبداية أخرى من الصراع على النفوذ

طرابلس - ساد الهدوء الحذر العاصمة الليبية طرابلس في الساعات الأولى من صباح اليوم الثلاثاء، بعد ليلة عصيبة شهدت اشتباكات مسلحة عنيفة عقب إعلان قوات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها سيطرتها الكاملة على مقرات "جهاز دعم الاستقرار" الجهاز الأمني النافذ الذي كان يقوده عبدالغني الككلي "غنيوة"، الشخصية الأمنية الأكثر جدلاً في العاصمة.

وبينما خفت حدة القتال بشكل ملحوظ، سُمعت أصداء بعض الطلقات المتفرقة في مناطق متفرقة من المدينة، مما يشير إلى استمرار حالة التوتر وعدم اليقين.

وأعلنت وزارة الدفاع التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، عبر منشور مقتضب على صفحتها الرسمية على فيسبوك، عن "نجاح" العملية العسكرية التي استهدفت مقرات الجهاز، دون الخوض في تفاصيل طبيعة العملية أو حجم الخسائر الناجمة عنها.

واكتفت الوزارة بالإشارة إلى إصدار تعليمات "بإكمال خطتها في المنطقة بما يضمن استدامة الأمن والاستقرار"، وهو ما يثير تساؤلات حول الخطوات اللاحقة للحكومة في تعزيز سيطرتها وترسيخ الأمن في العاصمة.

من جانبه، سارع رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، بتهنئة وزارتي الداخلية والدفاع وجميع منتسبي الجيش والشرطة على ما وصفه بـ"إنجاز كبير في بسط الأمن وفرض سلطة الدولة في العاصمة".

وأكد الدبيبة، عبر صفحته على فيسبوك، أن هذه الأحداث "تؤكد أن المؤسسات النظامية قادرة على حماية الوطن وحفظ كرامة المواطنين، وتشكل خطوة حاسمة نحو إنهاء المجموعات غير النظامية، وترسيخ مبدأ ألا مكان في ليبيا إلا لمؤسسات الدولة، ولا سلطة إلا للقانون".

وتعكس صريحات الدبيبة إصرار حكومته على إظهار القوة وفرض النظام، لكن يبقى التحدي الأكبر في ترجمة هذه التصريحات إلى واقع ملموس على الأرض.

وخلف المشهد الظاهري لعملية أمنية تهدف إلى فرض القانون، تتكشف تفاصيل تشير إلى صراع نفوذ مكتوم وتصفية استباقية أنهت سطوة رجل قوي طالما أثار الجدل في طرابلس.

فوفقا لتقارير محلية، لم تكن عملية السيطرة المفاجئة على مقرات جهاز دعم الاستقرار وليدة اللحظة، بل جاءت تتويجا لتصاعد تدريجي في حدة الخلافات بين أطراف نافذة في العاصمة. فبعد فترة من التحالف البراغماتي الذي جمع رئيس الدبيبة وشقيقه إبراهيم مع القيادي الأمني البارز عبدالغني الككلي "غنيوة"، بدأت العلاقات تشهد فتورا ملحوظا بالتزامن مع تنامي نفوذ الأخير وسيطرته المتزايدة على مفاصل حيوية في طرابلس.

ولم يقتصر نفوذ "غنيوة" على مناطق جغرافية محددة، بل امتد ليشمل مؤسسات سيادية وأمنية هامة في طرابلس، فقد بسط سيطرته على جهاز الأمن الداخلي وأمن المرافق الحيوية عبر شخصيات مقربة منه كالحراري وأطليش، مما عزز من قبضته الأمنية في العاصمة.

وتفاقم الخلاف بين الطرفين ليأخذ منحى تصعيديا، حيث لجأ "غنيوة" إلى استخدام أساليب غير تقليدية في تحدي سلطة الدبيبة. تشير التقارير إلى تورطه في تحريض جمهور النادي الأهلي طرابلس في حملة شعواء استهدفت شخص رئيس الحكومة ونجله محمد، واتهمتهما بادعاءات خطيرة تتعلق بتعاطي المخدرات، بالإضافة إلى التحريض العلني على إسقاط حكومته.

وبلغ التوتر ذروته مع قيام "غنيوة" بخطوة غير مسبوقة تمثلت في اقتحام مقر الشركة القابضة للاتصالات واختطاف رئيسها يوسف أبوزيدة، وهو شخصية مقربة من الدبيبة وينحدر من مدينة مصراتة. وهذه الخطوة، التي استهدفت رمزًا من رموز سلطة الدبيبة وحليفًا من حلفائه، استُقبلت باستياء وغضب شديدين في أوساط المقربين من رئيس الحكومة، وبدت وكأنها تجاوز لكل الخطوط الحمراء وتحدٍ مباشر لسلطته.

وفي ظل هذه التطورات المتسارعة، اتُخذ قرار حاسم بتقويض نفوذ "غنيوة" في طرابلس، إذ تشير المصادر إلى عقد اجتماع هام في الكواليس جمع آمر المنطقة الغربية أبوعبيدة أبوغدادة مع عبدالحميد وإبراهيم الدبيبة، وُضعت خلاله الخطط الأولية للتحرك العسكري. تبع ذلك حشد لقوات كبيرة من كتائب مصراتة، قُدرت بنحو ألف آلية مسلحة، ووضعت تحت تصرف آمر المنطقة الغربية أبوغدادة وإبراهيم الدبيبة، استعدادًا لتنفيذ العملية. إلا أن قرار إعلان حرب شاملة على "غنيوة" كان محفوفًا بمخاطر جمة، نظرًا لقوة عتاده وتحالفاته الواسعة مع فصائل مسلحة من مناطق عدة أبرزها الزاوية، وهو ما كان يُنذر بنزاع مسلح طويل الأمد وواسع النطاق قد يجر العاصمة إلى أتون حرب أهلية جديدة.

لذا، اتُخذ قرار استراتيجي يعتمد على مبدأ "قطع الرأس تيبس العروق"، بهدف إضعاف وانهيار قوات "غنيوة" بشكل سريع ومباغت. جرى تنسيق دقيق مع محمود حمزة، الذي كان يُعد من المقربين لـ "غنيوة"، والذي سبق أن تدخل الأخير للإفراج عنه بعد اختطافه من قبل جهاز الردع. وبحجة إجراء مفاوضات لحقن الدماء وحل الخلاف، استُدرج "غنيوة" للقاء بعد صلاة المغرب، حيث وصل على متن دراجة نارية، لتتم تصفيته. وفق التقارير المحلية.

وعقب الإعلان عن مقتل "غنيوة"، تحركت قوات مصراتة بالتنسيق مع اللواء 444 قتال واللواء 111 مجحفل التابعة للزنتان، وتمكنت من السيطرة والاقتحام السريع لمقرات "غنيوة" ومواقعه الحساسة في العاصمة.

وأسفرت هذه التطورات الدراماتيكية عن تعزيز نفوذ الدبيبة وحلفائهم من مصراتة بشكل ملحوظ في طرابلس، وتخلصوا من تأثير ونفوذ كتائب طرابلسية نافذة كانت تشكل تحديا لسلطتهم، كالنواصي وهيثم التاجوري وعبدالغني الككلي "غنيوة"، ليبقى جهاز الردع بقيادة عبدالرؤوف كارة كقوة بارزة أخرى في المشهد الأمني المعقد للعاصمة، وإن كانت علاقاته مع الدبيبة تشوبها الحذر والريبة.

ويُعد آمر "جهاز دعم الاستقرار"، عبدالغني الككلي "غنيوة"، من أبرز قادة الميليشيات الليبية التي نشأت عقب أحداث فبراير 2011، وقد بسط نفوذه منذ ذلك الحين على منطقة أبوسليم ذات الكثافة السكانية العالية، بالإضافة إلى سيطرته على عدد من المعسكرات والمرافق المدنية، بما في ذلك حديقة الحيوان المركزية التي ظلت مغلقة لفترة طويلة بسبب تمركز قواته فيها.

وامتدت سيطرة جهاز دعم الاستقرار، بدرجات متفاوتة، لتشمل مؤسسات حكومية أخرى مثل جهاز الأمن الداخلي وديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية. وقد تصاعدت حدة التوتر مؤخرا بعد محاولة قوات الجهاز السيطرة على الشركة القابضة للاتصالات، حيث داهمت مقرها وألقت القبض على رئيسها، وهو ما يعكس سعي الجهاز لتوسيع نفوذه وموارده.

ويتبع جهاز دعم الاستقرار اسميا المجلس الرئاسي الذي تولى السلطة في عام 2021 مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة، وذلك في إطار عملية سياسية مدعومة من الأمم المتحدة.

ووثقت مقاطع فيديو متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي آثار الاشتباكات، حيث ظهرت جثث متناثرة وسيارات مسلحة تابعة لجهاز الاستقرار وقد لحقت بها أضرار بالغة. وفي سياق متصل، أعلن مركز طب الطوارئ والدعم اليوم الثلاثاء عن انتشال ست جثث من مناطق الاشتباكات، مشيرا إلى أن وحدات الإنقاذ التابعة للمركز باشرت مهامها "بعد استقرار الأوضاع بشكل نسبي"، حسب بيان صادر عنه.

وشهدت طرابلس ليلة الاثنين واحدة من أشد الليالي الأمنية اضطرابًا منذ سنوات، حيث تصاعدت حدة الاشتباكات بين التشكيلات المسلحة في الأحياء الجنوبية للمدينة بشكل غير مسبوق. وقد دفعت هذه الأوضاع وزارة الداخلية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية إلى إصدار تحذيرات عاجلة للسكان بضرورة البقاء في منازلهم حفاظًا على سلامتهم.

وعقب دعوة الوزارة شهدت شوارع طرابلس حالة من الفوضى والارتباك، حيث عمد سائقو السيارات إلى تجاوز السرعة وإطلاق أصوات التنبيه بشكل هستيري في محاولة للوصول إلى منازلهم قبل تفاقم الأوضاع.

وأفاد شهود عيان بسماع دوي إطلاق نار كثيف في منطقة باب بن غشير بالقرب من معسكر "الـ77" التابع لغنيوة والمحاذي لمنطقة أبوسليم التي بدت معظم شوارعها خالية تماما في ظل حالة الهلع التي انتابت السكان.

وقال أحد السكان، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، "سمعت إطلاق نار كثيفًا ورأيت أضواء حمراء في السماء"، بينما أكد ساكنان آخران أن أصداء إطلاق النار كانت تتردد في جميع أنحاء منطقتي أبوسليم وصلاح الدين.

وفي ظل هذه الأوضاع الأمنية المتدهورة، أعلنت رئاسة جامعة طرابلس عبر صفحتها على فيسبوك عن "إيقاف الدراسة والامتحانات والعمل الإداري في كافة كليات وإدارات ومكاتب الجامعة حتى إشعار آخر"، حرصا على سلامة الطلاب والموظفين.

من جانبها، دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا جميع الأطراف إلى "وقف الاقتتال فورا واستعادة الهدوء"، مؤكدة على "التزاماتها بحماية المدنيين في جميع الأوقات".

وحذرت البعثة بشدة من أن "الهجمات على المدنيين والأهداف المدنية قد ترقى إلى جرائم حرب"، وهو ما يضيف بعدًا خطيرًا لهذه التطورات.

وتأتي هذه الأحداث في سياق استمرار حالة عدم الاستقرار التي تشهدها ليبيا منذ انتفاضة عام 2011 التي دعمها حلف شمال الأطلسي. وانقسمت البلاد في 2014 بين طرفين متناحرين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب.

ورغم توقف المعارك الكبرى بموجب اتفاق وقف إطلاق النار في عام 2020، إلا أن الجهود الرامية إلى إنهاء الأزمة السياسية باءت بالفشل، ولا تزال الفصائل الرئيسية تخوض اشتباكات مسلحة متقطعة وتتنافس على السيطرة على موارد البلاد الاقتصادية الهائلة لليبيا.

وتعتبر طرابلس والشمال الغربي، حيث تتمركز حكومة الوحدة الوطنية ومعظم مؤسسات الدولة الكبرى، موطن فصائل مسلحة متناحرة تخوض معارك بصورة متكررة.

وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، يبقى مصير طرابلس معلقًا بين تطلعات الاستقرار وترسبات الصراعات المزمنة. إن السيطرة الأخيرة تضع العاصمة الليبية أمام مفترق طرق حاسم، فإما أن تُشكل بداية حقبة جديدة من الأمن والسلطة المركزية الراسخة، وإما أن تكون مجرد حلقة أخرى في سلسلة النزاعات المعقدة التي تُعيق مسيرة البلاد نحو السلام والوحدة.