هدنة طرابلس تتهاوى سريعا مع عودة الاشتباكات المسلحة

طرابلس – تهاوت الهدنة التي سادت العاصمة الليبية طرابلس بشكل سريع ومفاجئ، مع تجدد الاشتباكات المسلحة بين الميليشيات المتنافسة فجر اليوم الاثنين ما يعيد المدينة إلى مربع التوتر الأمني، وينسف آمال الاستقرار التي تعلقت باتفاق التهدئة المعلن قبل أسابيع بين رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة.
وهذا التصعيد الجديد لا يؤكد فحسب هشاشة الأوضاع الأمنية في البلاد، بل يُلقي بظلاله الثقيلة على جهود استقرار طرابلس التي ما زالت رهينة صراعات النفوذ الدائمة.
واستيقظت أحياء عديدة في طرابلس على أصوات الرصاص، التي وإن لم تستمر طويلاً، فقد خلفت وراءها انتشاراً كثيفاً لعناصر مسلحة تابعة لـ"قوة الردع" و"اللواء 444" التابع لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها.
وانتشرت هذه القوات على جانبي خطوط التماس بين مناطق نفوذ القوتين غربي وشرقي وجنوبي المدينة، ما يؤكد الطبيعة المنظمة لهذا الصراع.
أفاد سكان منطقة عين زارة بسماع رماية كثيفة بالأسلحة الخفيفة عند الساعة السادسة صباحاً، توقفت بعد حوالي نصف ساعة. كما لاحظ شهود عيان انتشار عناصر مسلحة، بعضهم يرتدي لباساً مدنياً، وسيارات عسكرية تابعة لـ"قوة الردع" في الشوارع وتقاطعات الطرق القريبة من خطوط التماس الممتدة من جزيرة الفرناج إلى نهاية شارع عين زارة الرئيسي المؤدي إلى منطقة وادي الربيع. هذه الملاحظات تثير تساؤلات حول طبيعة هذه القوات وولاءاتها الحقيقية.
وجاء اندلاع الاشتباكات بعد اقدام مجموعة تابعة لجهاز الأمن العام على دخول منطقة نطاق الهدنة في جزيرة بن عاشور، ما اعتُبر استفزازا مباشراً لقوات الردع، خاصة بعد توجيه عناصر الأمن العام الشتائم والاستفزازات لقوات الردع. وهذا التصعيد اللفظي قوبل برد فعل سريع من قوات الردع، التي شنت هجوماً مسلحاً على عناصر الأمن العام، لتشتعل بذلك شرارة المواجهة بين الطرفين.
وأفادت وسائل إعلام محلية بأن قوات الردع بسطت سيطرتها على معظم مناطق العاصمة طرابلس، بما في ذلك المناطق الممتدة من جزيرة بن عاشور وصولا إلى جزيرة سوق الثلاثاء، وسط تقهقر واضح لقوات الأمن العام واللواء 444، وهي تطورات ميدانية تُظهر مدى قوة وتأثير "قوة الردع" على الأرض.
بالإضافة إلى ذلك، استعاد جهاز الردع مقره السابق في معسكر الرجمة على طريق الشط، ودفع بتعزيزات إضافية إلى عدة محاور داخل المدينة. وفي جزيرة أبومشماشة، استولى جهاز الردع على سيارة عسكرية تابعة للواء 444 قتال، وتم أسر عنصرين من أفراد اللواء في المنطقة ذاتها، ما يعكس تفوق "قوة الردع" العملياتي.
وأدّى النزاع أيضاً إلى اندلاع حريق في مقبرة سيدي منيدر، حسب مقاطع فيديو نشرها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يُسلط الضوء على التداعيات الإنسانية والمجتمعية لهذه الاشتباكات، وسط مناشدات من المواطنين للجهات المختصة بسرعة إرسال سيارات الإطفاء للسيطرة على النيران ومنع امتدادها إلى المناطق المجاورة.
وفي وقت لاحق، أعلنت وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها تمكنها من ضبط الموقف في العاصمة طرابلس وفرض احترام الهدنة بعد خرقها من جانب "عناصر مخالفة".
وقالت الوزارة في بيانها بأنها تابعت "تحركات ميدانية مفاجئة" في بعض مناطق العاصمة خلال الساعات الماضية "في خرق واضح لترتيبات التهدئة والتفاهمات الأمنية المعتمدة".
وأضافت "فور رصد هذه التحركات، تدخلت الوزارة ميدانياً عبر قنواتها الرسمية، وتمكنت من ضبط الموقف وفرض احترام الهدنة، ما أدى إلى انسحاب العناصر المخالفة وعودتها إلى مواقعها السابقة".
وأكدت وزارة الدفاع "التزامها الكامل بقرارات القائد الأعلى للجيش الليبي، وبمهام اللجنة الموقتة للترتيبات العسكرية والأمنية"، مشيدةً بانضباط قواتها النظامية وحرصها على عدم الانزلاق للتصعيد.
كما حذرت من "تكرار مثل هذه التجاوزات وتؤكد استعدادها لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لضمان احترام السيادة الأمنية، وحماية المسار القائم على إعادة الانتشار تحت إشراف مؤسسات الدولة".
وقبل ذلك، وكشف مصدر في وزارة الداخلية في حكومة الدبيبة عن تدخل قوات لـ"فض النزاع" بين الأطراف المتقاتلة، ما أدى إلى وقف إطلاق النار وعودة الهدوء نسبيا، على الرغم من استمرار التحشيد العسكري في بعض الشوارع.
وأعلن مصدر بوزارة الداخلية في حكومة الدبيبة عن انتهاء اجتماع "جهاز الردع" و"لجنة فض النزاع" في منطقة معيتيقة باتفاق على تهدئة الأوضاع في العاصمة طرابلس.
وأكد المصدر لـ"بوابة الوسط" أن اللجنة أعربت لـ"جهاز الردع" عن عدم رضاها على ما سمته بـ"تجاوزات" جهاز الأمن العام، وأنه لن تسمح بمغادرة أي آلية لـ"الأمن العام" من منطقة حي الأندلس مجددا في اتجاه وسط المدينة.
وأضاف المصدر أن "جهاز الردع" أبلغ اللجنة بأنه سيستهدف أي آلية تتبع "الأمن العام" حال مغادرتها حي الأندلس.
ومن جانبه، دعا آمر "الكتيبة 166" للحراسة والحماية التابعة لرئاسة الأركان العامة في طرابلس، محمد الحصان، الأطراف المتنازعة إلى تقديم "تنازلات" لإنهاء المشاحنات واستعادة الهدوء الدائم في العاصمة. محذراً من أن التشبث بالمواقف المتشددة "سيجر المدينة وأهلها إلى ما لا تُحمد عقباه". وتتولى الكتيبة مهمة متابعة الهدنة المتفق عليها عقب اشتباكات مايو.
وتضع هذه الاشتباكات علامات استفهام كبيرة حول قدرة حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي على فرض سيطرتهما على العاصمة. فالاتفاق الأخير لإخلاء العاصمة من المظاهر المسلحة، والذي كان يهدف إلى تعزيز شرعيتهما، تعرض لانتهاك صارخ بعد أسابيع قليلة.
وأثبتت الهدنة الأخيرة، مثل سابقاتها، أنها هشة وقابلة للانهيار في أي لحظة. هذا الفشل المتكرر يُقلل من مصداقية أي اتفاقيات مستقبلية ويُفقد الأمل في تحقيق استقرار طويل الأمد عبر هذه المسارات. كما تستفيد العديد من هذه الميليشيات من الاقتصاد الموازي والسيطرة على المنافذ والموارد، مما يُعطيها قوة مالية تمكنها من استمرار وجودها ونفوذها بعيداً عن سيطرة الدولة.
وتأتي هذه التطورات لتؤكد أن الأزمة الليبية لا تزال رهينة صراعات النفوذ داخل مؤسسات الحكم نفسها، وأن الانقسامات باتت تُشكّل تهديداً مباشراً للاستقرار في العاصمة.
كما أن غياب آلية تنفيذ واضحة لاتفاقات التهدئة، وافتقارها لضمانات حقيقية، ساهم في تقويضها سريعاً. هذا الفشل المتكرر في تثبيت الاستقرار يعكس أيضاً عمق الانقسام بين القوى السياسية والعسكرية في الغرب الليبي، ويضع المجتمع الدولي أمام معضلة جديدة بشأن كيفية دعم مسار سياسي تفتقر أطرافه إلى الحد الأدنى من الانسجام والالتزام.
وقد تؤدي اشتباكات اليوم الاثنين إلى تصعيد أوسع النطاق بين الميليشيات المسلحة التابعة لمعسكر حكومة الدبيبة والأخرى غير الموالية لها داخل العاصمة طرابلس، التي تعيش منذ أسابيع على وقع توترات أمنية نتجت عن مقتل رئيس جهاز دعم الاستقرار، عبدالغني الككلي. وهذا الوضع يبرز الحاجة الملحة إلى حلول جذرية تنهي هيمنة الميليشيات وتؤسس لدولة قوية ومستقرة.