هجمة تشريعية من القوى الشيعية العراقية لتحصين مصالحها بقوة القانون

الوضع السياسي القائم حاليا في العراق هو عبارة عن هيمنة كبيرة للقوى الشيعية من أحزاب وفصائل مسلّحة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية قد لا تكون متاحة بالقدر نفسه في ظروف أخرى ومراحل لاحقة، الأمر الذي يفسّر مسارعة تلك القوى إلى إقرار تشريعات تجسّد رؤيتها وتوجهاتها وتحصّن مصالحها وتحمي مكتسباتها السياسية والمادية.
بغداد - دخلت القوى الشيعية العراقية المهيمنة إلى حدّ كبير على السلطتين التشريعية والتنفيذية والضامنة لولاء السلطة القضائية لها، في ما يشبه سباقا ضدّ السّاعة لتمرير قوانين وتشريعات مفصلة على مقاسها وتحمل لونها السياسي والطائفي، وذلك بهدف تثبيت بصمتها على الدولة العراقية، وضمان حماية قانونية لمصالحها على المدى الطويل.
واستثمرت الأحزاب والكتل الشيعية تمثيلها القوي تحت قبة مجلس النواب ووجود أحد أعضائها، محسن المندلاوي، على رأس المجلس نيابة عن رئيسه المستبعد بأمر قضائي محمّد الحلبوسي للشروع في مناقشة تعديل على قانون الأحوال الشخصية يتضمن إقحام مواد ضمنه تحمل ملامح دينية وطائفية وتشكّل انتكاسة للحقوق المدنية للأفراد وخصوصا النساء، إلى جانب طرح مشروع قانون للحشد الشعبي يمنح مقاتليه المزيد من الحقوق والامتيازات الوظيفية والمالية تساوي بينهم وبين أفراد القوات المسلّحة وتشكل عبئا ماليا إضافيا على الدولة كما تحقق مكاسب انتخابية للقوى ذات الصلة بالحشد.
وفي مقابل القانونين المذكورين فتحت القوى ذاتها الباب لتمرير قانون العفو العام المطلوب منذ سنوات طويلة من قبل الأحزاب السنية بهدف استعادة حقوق الآلاف من أبناء طائفتها الذين يوجدون في السجون ويواجه بعضهم عقوبات ثقيلة تصل إلى حدّ عقوبة الإعدام، وذلك استنادا إلى تهم كيدية ووشايات المخبر السري التي استخدمت ضدّهم في محاكمات جرت غالبا على عجل في أعقاب تحقيقات مفبركة تفتقر إلى أدنى مواصفات المهنية.
لكن المطروح للنقاش ضمن القانون المذكور لا يتعدّى تعديلا هزيلا يتعلّق بإعادة تعريف الجريمة الإرهابية ويأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر القوى والشخصيات الشيعية التي كثيرا ما اعترضت على تمرير قانون العفو العام بحجة أنّه يتضمن عفوا عن إرهابيين.
وانتقدت عدة قوى وشخصيات سياسية سنية بالأساس هذا التعديل وقالت إنّه عملية إفراغ للقانون من محتواه وجعله غير مفيد لأي من الآلاف القابعين ظلما في السجون ويأملون في إنصافهم واسترداد حقوقهم.
وقال المنتقدون إنّ سماح القوى الشيعية بمناقشة قانون العفو العام جاء على سبيل المقايضة لاسترضاء الكتل السنية من أجل تسهيل تمرير قانون الحشد وتعديل قانون الأحوال الشخصية.
ويرتب إقرار قانون الخدمة والتقاعد لعناصر الحشد الشعبي المزيد من الأعباء المالية الثقيلة أصلا على الموازنة العامة للدولة، بفعل تضخّم هذا الهيكل الأمني الذي قفز عدد منتسبيه إلى أكثر من مئتي ألف بعد إعادة الآلاف من عناصره الذين تم في السابق فسخ عقودهم واستحداث وحدات جديدة داخله، ما يفسر ضخامة الموازنة المخصصة للحشد والبالغة سنويا نحو المليارين ونصف المليار دولار.
كما لم تنفصل محاولة تمرير القانون عن خلفيات سياسية عرض لها بعض منتقديه ومن بينهم محمد الحلبوسي الرئيس السابق للبرلمان وزعيم حزب تقدم الذي قال إن مشروع القانون الجديد “يضرب مبدأ استقلالية الأجهزة العسكرية والأمنية الذي نص عليه الدستور”.
وهاجم الحلبوسي أيضا فالح الفياض رئيس هيئة الحشد معتبرا في منشور على منصّة إكس أنّ تمرير القانون يخدمه حزبيا ويسمح له باستخدام الهيئة وقواتها حسب رؤيته ومنهاجه السياسي.
وردّت هيئة الحشد الشعبي بحدّة على الحلبوسي قائلة في بيان إنّ “من يتجاوز على الدستور والقانون ويدان بالتزوير غير مؤهل أن ينصّب نفسه واعظا وناصحا للآخرين”.
وأكّد البيان رفض الهيئة “لما صدر من رئيس مجلس النواب المقال ضد قانون الخدمة والتقاعد الخاص بمجاهدي الحشد الشعبي وما تضمنه من اتهامات ومغالطات ضد الهيئة ورئيسها”.
وأضاف أنّ “الهيئة تعمل بموجب القوانين وخصوصا قانون 40 لسنة 2016 الذي حدد علاقة الهيئة بالأطراف السياسية والحزبية والاجتماعية، حيث نص بشكل واضح على فصلها عن الأطر السياسية والحزبية والاجتماعية”.
كما رفضت الهيئة في بيانها ما سمّته “أساليب تشويه صورة مجاهدينا والقفز على تضحياتهم الكبيرة وإعادة النعرات الطائفية التي تجاوزها شعبنا من خلال اختلاط دماء أبنائه من المكونات والمذاهب كافة في ملحمة الدفاع عن الوطن والمقدسات”.
ومنذ إزاحة القضاء العراقي للحلبوسي من عضوية مجلس النواب العراقي ومن رئاسة المجلس قبل نحو ثمانية أشهر لا يزال منصب رئيس البرلمان يُشغل بالوكالة من قبل المندلاوي بسبب تعذّر اتّفاق الكتل السنية على مرشّح للمنصب في ظل تدخلات من الكتل الشيعية لتمرير مرشحين متحالفين معها.
ورأى العضو السابق بالبرلمان حيدر الملا أنّ هناك تعطيلا متعمّدا لحسم منصب رئيس البرلمان وذلك بهدف تمكين التحالف الحاكم (الإطار التنسيقي الشيعي) من تمرير القوانين التي يريدها.
وقال الملا عبر منصة إكس “بات واضحا لماذا قسمٌ من قوى الإطار يماطل في انتخاب رئيس أصيل لمجلس النواب ويحاول أن يبقي المندلاوي متمددا على حق المكون السني في الرئاسة”، مضيفا أنّ الهدف من ذلك “هو تمرير حزمة من القوانين برؤية إطارية بعيدا عن التوافق الوطني”.
وبسبب الخلافات السياسية الحادة حول القوانين المراد تمريرها لم يتمكّن مجلس النواب العراقي في جلسته المنعقدة الأربعاء سوى من مناقشة القراءة الأولى لمشروع قانون الخدمة والتقاعد لمنتسبي الحشد الشعبي، فيما أجل مناقشة تعديل قانون العفو العام كما أرجأ مناقشة قانون الأحوال الشخصية الذي كان قد تعرّض لعاصفة من النقد والاعتراضات من عدّة قوى وشخصيات فكرية وسياسية متعدّدة الاتّجاهات والمشارب، وذلك رغم أنّ القوى التي عملت على تمريره حرصت على نسبته إلى المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني.
وقبل انعقاد جلسة الأربعاء قام النائب نور نافع بجمع تواقيع عدد من أعضاء مجلس النواب لرفع فقرة تعديل قانون الأحوال الشخصية من جدول أعمال المجلس.
وقال في تصريحات لوسائل إعلام محلية إن الاعتراض الرئيسي على التعديل يتمحور حول المادة الثانية من القانون التي تتعلق بالميراث وعقود الزواج خارج المحكمة وفقا للطوائف والمذاهب.
كما حذر الحزب الشيوعي العراقي من التصويت على مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية معتبرا أنّه مكرّس للطائفية والمذهبية.
وهاجمت سروة عبدالواحد، رئيسة كتلة الجيل الجديد، التعديل المقترح. وقالت في تدوينة على منصة إكس إنّ “تمرير هذا التعديل يقسم العراق”، وإنّ “من يتحدث باسم المرجعية ويقول إنّ المرجع الأعلى دعا إلى هذا التعديل لتقسيم العراق فعليه أن يعطينا دليلا واضحا وصريحا على هذا الكلام”، مؤكّدة قولها “نرفض التعديل ولن نقف مكتوفي الأيدي”.