"هارب من/ إلى الدولة الإسلامية" مونودراما تونسية عن صناعة التطرّف

المسرحية تسافر بمتابعيها من بلد إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى، وتُقحمهم في أجواء القصف والقتل، يرويها الممثل منير العماري بطريقة تقرب من الخيال لكنّها أقرب إلى الحقيقة.
الأربعاء 2020/12/23
ديكور بسيط لقصة مربكة

لم تمنع الإجراءات المشدّدة للحد من انتشار فايروس كورونا في تونس، من إقدام المسرحيين التونسيين على كتابة نصوص تطرح موضوع صناعة التطرف، التي راجت في السنوات الأولى بعد ثورة 14 يناير 2011.

تونس – “هارب من/ إلى الدولة الإسلامية”، هو أحدث الأعمال المسرحية للمخرج التونسي وليد الدغسني، الذي اتخذ من كتاب “كنت في الرقّة: هارب من الدولة الإسلامية” للصحافي التونسي هادي يحمد، نصّا متينا لإعادة طرح الموضوع وفق مقاربة مسرحية أجاد أداءها الممثل منير العماري.

وخلال العرض الأول للمسرحية بفضاء التياترو بالعاصمة تونس، وظّف العماري كل ما يمكن أن يستوعبه العمل المسرحي للتعبير عن هذا التغيّر الذي أصاب عددا كبيرا من الشباب التونسي في فترة انفلت فيها الوضع وطغى فيها الخطاب التكفيري، حيث استعان الممثل بحركاته ونظراته وإيماءاته وأنفاسه وخطواته ليحاكي مراحل “صناعة العقل المتوحّش”، كما سمّاها الكاتب والصحافي التونسي هادي يحمد، من خلال قصة الإرهابي الهارب من تنظيم داعش، محمد الفاهم.

وجاء في تعريف الكتاب الذي ترجم إلى أكثر من لغة عند صدوره في العام 2018 “هذا الكتاب ثمرةُ لقاء غريب، ومأتى الغرابة ليس في الرواية المشوّقة، ولا في أهمية وقوّة تفاصيلها فحسب، بل في أن تُروى أيضا من قبل فاعلها. ربما تكون سابقة أن يروي شاب عاش ضمن تنظيم الدولة الإسلامية، أو ما يصطلح عليه بداعش، تجربته للرأي العام”.

ويضيف يحمد في تقديمه للكتاب “كثيرة هي الشهادات التي جاءت من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تحت الضغط وتحت وقع الأسر، وهذه الشهادة ليست بشهادة أسير ولا مضطر؛ إنها شهادة حرة؛ شهادة من الداخل، خُطت بحرية كاملة دون ضغوط؛ شهادة كاملة لمسار رحلة تمّت بوعي واختيار”.

وتطرح المسرحية المقتبسة من الكتاب تساؤلات عن تحوّل لم يعهده التونسيون من قبل، وكيف تحوّل شاب عاشق للموسيقى والشعر والأدب مقبل على الحياة، إلى إرهابي ينتشي بالأشلاء والدماء؟ وما الذي يدفع طبيبا حديث التخرّج من الجامعة إلى السفر إلى أرض تحصد فيها آلة الموت أرواحا بالمئات، حين اشتدّت رحى الاقتتال في سوريا؟

وليد الدغسني: الرواية تعطي القارئ فرصة التفكير بينما تهديه المسرحية الفرجة
وليد الدغسني: الرواية تعطي القارئ فرصة التفكير بينما تهديه المسرحية الفرجة

أسئلة تبدو في ظاهرها مبهمة لا يوجد لها تفسير منطقي، لكنها تحتمل إجابات كثيرة تحدّث عنها مختصون في علم الاجتماع ومفكرّون وشرّحها كتاب وفنانون، كل على طريقته.

وبقدمين حافيتين، يطل العماري ليروي قصة رحلته إلى الرقة ومنها منتقلا من شخصية إلى أخرى ومن العربية الفصحى إلى الدارجة التونسية استطاع من خلالها سرقة بعض الضحكات رغم قتامة الأحداث.

وقال مخرج العمل، وليد الدغسني، إن المقارنة بين الكتاب والمسرحية لا تزعجه، لأن العمل اقتصر على اقتباس المحاور الرئيسية للرواية دون الخوض في التفاصيل مثلما سردها هادي يحمد، لأن الرواية تعطي للقارئ فرصة التفكير بينما العمل المسرحي يهديه فرجة.

أما منير العماري، فتحدّث عن ولادة هذا المشروع بينه وبين المخرج انطلاقا من اهتمام شخصي بهذا الموضوع الذي تناسته الدولة بعد استشارة صاحب الرواية.

وأضاف الممثل في نفس السياق أن العمل “يحاول طرح أحداث واقعية للجمهور إثر الأحداث التي عاشتها تونس، ومن باب التذكير والتساؤل عن الذين سافروا إلى بؤر التوتر وعادوا دون حسيب ولا رقيب”.

والمسرحية الممتدة على 50 دقيقة، تسافر بمتابعيها من بلد إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى، وتُقحمهم في أجواء القصف والقتل، يرويها العماري بطريقة تقرب من الخيال لكنّها أقرب إلى الحقيقة، لاسيما أنّ النصّ المسرحي أساسه شهادة حية من شاب تونسي كان هناك في الرقّة، معقل تنظيم داعش منذ نشأته.

ويبدو هذا العرض المسرحي الذي يُصنّف ضمن المونودراما في جوهره تراجيديا، لكن الممثل الذي يبدو متمكّنا من تفاصيل النصّ ومفاصله يفتح من حين إلى آخر فسحات من الكوميديا أداء وكلمات ما دفع الحاضرين إلى الضحك رغم المرارة التي لا تخفى عن تفاصيل العرض.

ومن مشهد إلى آخر، يحاول العماري ملامسة الأسباب النفسية والاجتماعية التي تخلق شابا متطرفا، في ديكور بسيط لا يزيد عن كرسي واحد منتصب على خشبة المسرح، وحركات يأتيها الممثل من حين إلى آخر بصحبة “عرائس متحركة” أضفت على العرض حيوية، وألقت بمعان متعددة مع كل ظهور ومع كل ضوء في خفوته أو سطوعه.

ويتنقل الممثل التونسي من وضعية نفسية إلى أخرى، ومن حالة ذهنية إلى أخرى، فترتسم لوحات ذات معان، فالرجل يجيد التحرك على الخشبة، ويجيد شدّ الأنظار إليه، وهو الذي تمكن من خيوط العرض وبرع في تحريكها، ويبدو متشبعا بالنص متقمصا للأدوار التي أداها ببراعة.

ومن هناك تُعيد مسرحية “هارب من/ إلى الدولة الإسلامية” موضوع العائدين من بؤر التوتر إلى الواجهة وتطرح تساؤلات حول الظروف والأسباب التي تدفع شخصا ما إلى اتباع الجماعات المتطرفة.

واستطاع مخرج العمل، وليد الدغسني، أن يثبت حضور تجربته على خارطة المسرح العربي عبر تجاربه المسرحية الملفتة، وهو من قال عنه الناقد اللبناني عبيدو باشا “لا يتبع وليد الدغسني درب المهابيل بالمسرح، لا تعبر أعماله إلاّ في عين المسرح المقدسة عند المسرحيين. يزور المسرح كما يزور الزوار المقامات”.

وقدّم الدغنسي للمسرح التونسي بل والعربي عموما عددا من العروض المسرحية التي لفتت انتباه النقاد والمتابعين من خلال فرقته “كلاندستينو” التي أسّسها مع رفقاء في العام 2008، ومن هذه العروض “ذئاب منفردة”، “الماكينة”، “ثورة دون كيشوت”، “سمها ما شئت” و”سماء بيضاء” وغيرها.

16