هاجس الوظيفة يكبل الشباب الراغبين في دخول عالم الفنون

العائلات تفضل الدفع لدراسة أبنائها اختصاصات علمية على الإنفاق لدراسة الفنون.
الأحد 2020/09/27
مستقبل الفن التشكيلي غير واضح

لا تتعامل المجتمعات العربية مع الفنون على اختلاف أنواعها على أنها مهنة جديرة بالاحتراف، وتضمن دخلا ماديا يتيح للشباب تأمين مستقبلهم، وإذا كان الكثيرون يبدون إعجابا بالفن والموسيقى وغيرها من الفنون إلا أنهم يقفون مطولا أمام السماح لأبنائهم باحتراف هذا المجال خصوصا في الطبقات المتوسطة وذوي الدخل المحدود.

تونس - تشعر سمية بالأسى لاضطرارها مواصلة العمل في مهنة التدريس فهي لا تعتبر نفسها من القادرين على تقديم إضافة لمهنة لا تحبها، بعد أن فشلت في إقناع أهلها بدراسة الفنون التشكيلية التي لا تضمن لها فرصة عمل وتحقيق دخل مادي يؤمن لها الأمان الوظيفي.

لم يكن اعتراض والد سمية على مجال الفن بحد ذاته، بل بسبب المصاعب المادية التي واجهوها بعد أن دخلت ابنتهم الأكبر هذا المجال الذي يتطلب مصاريف كبيرة ترهق الأسر محدودة الدخل، دون أن تستطيع أن تجد عملا بعد التخرج، لذلك كان الخيار الثاني بالنسبة لسمية دراسة اللغة الانكليزية للعمل في التدريس، وهي المهنة المحببة لغالبية المجتمعات العربية بالنسبة للفتيات، باعتبارها ثابتة الدخل وساعات الدوام قصيرة مقارنة بغيرها مع عطلة الصيف الطويلة، وتتيح فرصة للمرأة للعناية بأسرتها وأطفالها.

لازالت سمية /30/ عاما تحلم بفرصة تعيدها إلى طريق الفنون التي تجد أنها الأقرب إلى روحها وطموحها، لكنها تدرك صعوبة الأمر مع طول الوقت وأعباء الحياة اليومية.

نفقات مرهقة

وتعتبر المصاريف والمستلزمات في الكليات التطبيقية مثل الفنون الجميلة مرهقة جدا للطلاب وعائلاتهم تجعلهم  يعيشون حالة من الضغط لتدبير أمورهم المالية وتأمين مصاريف الدراسة  في تلك الكليات، وفي حالات كثيرة يضطر الطلاب للعمل لتغطية مصاريف دراستهم لكن التوفيق بين العمل والدراسة مشكلة أخرى لا يستطيع الجميع تجاوزها.

وهو أحد الأسباب الرئيسية لرفض العديد من العائلات ذات الدخل المحدود أو المتوسط حتى لدخول أبنائهم هذا المجال، إلا جانب السبب الآخر بأنها مجالات لا تعترف بها شريحة واسعة من المجتمعات العربية على أنها مهن، بل مجرد تسليه وترفيه عن النفس وتمضية وقت لا أكثر.

ولا يلاقي الفنانون الشباب العائد المادي من الفن الذي يخول لهم الاعتماد عليه كمورد رزق، عدا بعض الاختصاصات التشكيلية مثل التصميم الذي مازال يمكّن الممارسين له من فتح مشروعاتهم أو إيجاد عمل في اختصاصات مطلوبة في سوق العمل.

هواية الأغنياء

الحفلات دخل غير ثابت
الحفلات دخل غير ثابت

يقول الفنان التشكيلي الشاب باسم منصوري وهو أستاذ في إحدى دور الثقافة بتونس “أتعامل كثيرا مع الشباب الذين يتوجهون لدور الثقافة من أجل تنمية مواهبهم في الفنون التشكيلية؛ منهم تلاميذ وطلبة وموظفون يتعاملون مع هذا الاختصاص كهواية فهو لا يرقى في نظرهم لأن يكون مورد رزق آمن، رواد هذه النوادي من العائلات الميسورة في غياب شبه كلّي للطبقة الفقيرة التي لا تفكر أصلا في ممارسة الفن لا كاختصاص ولا كهواية”.

ومستقبل الفن التشكيلي غير واضح بالنسبة للشباب في تونس وفي الوطن العربي، وهو لا يستقطب إلا من يؤمن به فعلا، ويمكن تصنيف الشباب في علاقتهم بالفنون التشكيلية إلى شباب دارسين يتعاملون مع الفنون التشكيلية كاختصاص يخوّل لهم التدريس في ما بعد، وشباب منتجين للفن وشباب متلقين وشباب لا مبالين لا يعرفون عنها شيئا.

وتبدي بعض المجتمعات العربية تحفظا أكثر من غيرها على رغبات الشباب وطموحهم بدخول مجال الفنون على أنواعها سواء كمهنة أو حتى موهبة إلى جانب عمل آخر، فالشاب السعودي علي يوسف / 25 /عاما، واجه صعوبات بداية تعلمه العزف على البيانو بسبب نظرة المحيطين به المتحفظة على الموسيقى تحفظ، خصوصا مع عدم وجود مدارس أو معاهد تعليم الموسيقى.

وقال في تصريحات صحافية: بدأت التعلم على البيانو بجهد فردي عام 2012، وكانت البداية على آلة أورغ الأقرب للبيانو، لكن بسبب الضغط من العائلة وصعوبة التعلم الذاتي، ابتعدت عن البيانو لمدة سنتين حتى قررت العودة عام 2014 لأتعلم أكثر، وبعد القرار اقتنيت بيانو بقيمة 4 آلاف ريال من مصروفي الشخصي، وعند وصول البيانو للمنزل كانت الوالدة من أشد المعارضين، حتى أني كنت يوميًا أقفل باب غرفتي بسبب خو

تكلفة دراسة الفن التشكيلي عبء على الطلاب
تكلفة دراسة الفن التشكيلي عبء على الطلاب

لكن ذلك لم يمنع يوسف من مواصلة المشوار والعزيمة والإصرار على تعلم أول مقطوعة خاصة به في عالم الموسيقى، التي أعطته الدافع لإكمال مسيرة التعلم والإتقان، إلى أن وصل إلى مستوى العزف السماعي، وأصبح قادرا على عزف أي لحن سواء أغنية أو موسيقى بالسمع وبدون نوتة، والفضل يعود لقنوات يوتيوب التعليمية.

وبعد وصوله إلى مستوى متقدم من الاحتراف، أقنع من حوله بموهبته وتلقى الدعم والمساندة من العائلة والأصدقاء، وأصبح والداه أول الداعمين له بعد سنوات من الرفض والتشدد، ثم انطلق عبر مواقع التواصل الاجتماعي ليصل إلى خشبة المسرح، وأكد أنه “على ثقة سيتم إنشاء معاهد ومدارس للموسيقى، وسأكون في أحد تلك المدارس، وأتمنى أن أكون أكاديمياً وأملك شهادة في الموسيقى”.

ويقول خبراء اجتماع يرصدون التحولات في المجتمع السعودي أنه كان يتقبل الفنون ولا يشعر بالحرج من الفنانين، بل كان يحتضنهم ويحتفي بهم ويعتبرهم جزءاً أصيلاً من نسيجه لا يختلفون عن بقية المواطنين سوى أنهم يتمتعون بموهبة فنية يسعون من خلالها لتخليد شيء من إرثهم وإبداعهم الفني الذي كانت تتناقله الحاضرة والبادية في الجزيرة العربية.

ويضيف هؤلاء أن ثقافة بعض الفنانين الشباب الخارجين عن المألوف كانت سبباً في توجس المجتمع منهم، ومعارضة الأهل لمحاولة الأبناء الاتجاه نحو هذه الفنون واحترافها والعمل بها، خاصة في مجال التمثيل والدراما، واستمد البعض هجومه على الفنون بشكل عام من الأعمال التي شكلت ثورة على القيم والعادات الاجتماعية. وبسبب بعض الفنانين الشباب الذين اتهموا بالبحث عن الإثارة بأي طريقة، فتأثرت صورة الفن في نظر الناس وأصبح من الصعب العودة إلى الصورة السابقة للفن السعودي في البدايات؛ في زمن الرواد الذين التزموا بالقيم والعادات وابتعدوا عن المحظورات التي لا يتقبلها المجتمع فاحترمهم.

وأصبحت النظرة السائدة للفنون في المجتمع المحافظ أن دخول الشاب أو الشابة في مقتبل عمره إلى هذا الوسط يجعله عرضة للانحراف خصوصا أن العديد من الفنانين يرفضون فكرة دخول ابنه أو ابنته في هذا الوسط.

الشوارع ملجأ للفنون

الأهل يعتبرون الموسيقى هواية لا أكثر
الأهل يعتبرون الموسيقى هواية لا أكثر

ويشير الشاب الجزائري حسن مصباح عازف الغيتار إلى نظرة المجتمع إليه وإلى زملائه الذين يدرسون الموسيقى بالقول: “المجتمع ينظر إلينا على أننا مجموعة من الطبالين والرقاصين الذين يقيمون حفلات الرقص وما إلى ذلك، فمجتمعنا ما يزال يعاني من عدم الوعي وقلة الثقافة في مثل هذه الأمور”.

ويؤكد مصباح على وجود عقبة أخرى أمام الراغبين في احتراف الموسيقى وهي ارتفاع تكاليفها الدراسية الخاصة الذي حال دون دخول عدد كبير من الشباب الموهوبين هذا التخصص، وفتح الباب أمام من يمتلك المال للدراسة، ما خلق جيلا قليل الوعي بالموسيقى، إضافة إلى معارضة الأهل الذين يريدون لأبنائهم وظيفة ذات دخل جيد ويفضلون دفع تكاليف تخصص علمي على دفع نفقات اختصاص فني لا يضمن المستقبل.

واتخذ عشرات الشباب من الشوارع في الجزائر مسرحاً مفتوحاً لعرض لوحاتهم الفنية أو العزف أو الرقص، منتشرين على جنبات الطرقات الرئيسة، يعزفُون أحياناً على آلات موسيقية أو يرسمون المارة أو يملأون الشوارع رقصاً وألحاناً، بعدما تجاهلتهم السلطات العمومية، ممثلةً بوزارة الثقافة، وفق تعبير كثيرين منهم.

وعبّر عدد من الفنانين ممن ينتشرون في الأماكن العامة عن استيائهم الكبير من الإقصاء الذين يتعرضون له، خصوصاً أنهم محرومون من المشاركة في المناسبات والمهرجانات الوطنية، بداعي أنهم فنانون مغمورون، وليست لديهم

النظرة السائدة إلى الفنون في المجتمع المحافظ ترى أن دخول الشاب في مقتبل عمره إلى هذا الوسط يجعله عرضة للانحراف
النظرة السائدة إلى الفنون في المجتمع المحافظ ترى أن دخول الشاب في مقتبل عمره إلى هذا الوسط يجعله عرضة للانحراف

ويقول مصباح ” طيلة عدة سنوات، حاولتُ إقناع بعض الجمعيات الثقافية لدعمي بالمشاركة في بعض النشاطات الفنية، لكن كانت وعودهم وهمية ولم يتم الوفاء بأي منها، ما أفقدني الأمل وجعلني أفكر في البحث عن طرق أخرى تحول دون وأد موهبتي وتحقيق أحلامي، لاسيما وأن أهلي رفضوا مساعدتي بسبب اختياري لهذه المهنة”.

ويضيف أن عائلته لا تؤمن إلا بما هو عملي وكل ما تفكر به هو مجال يضمن فرصة عمل جيدة بمردود عالي، لذلك تم تأهيله منذ الصغر لدراسة المجالات العلمية وليس مسموح لأي شيء آخر أن يحتل تفكيره.

ولم يتقبل الجزائريون في البداية وجود شباب يحملون عوداً أو قيثارة أو يرقصون على أنغام شعبية وغربية، إلاّ أنه وبمرور الوقت، أصبحت هذه الأنواع من الفنون، تحظى بإعجاب المواطنين، الذين يقفون في الطرقات للاستماع إلى أغانيهم أو التمتع بموهبتهم في الرسم، ما أسهم في تنامي ظاهرة “فناني الشوارع” بشكل ملحوظ مؤخرا، فتحوّلت أزقة العاصمة اليوم إلى مسارح مفتوحة في الهواء الطلق بحضور جمهور غفير.

ويجذب عازفو الشوارع الذين انتشروا بشارعي ديدوش مراد وموريس أودان بالعاصمة الجزائرية انتباه المارة ويصل شباب إحدى الفرق، يبدؤون في وضع حقائب آلاتهم الموسيقية، تتناقص تدريجيا سرعة المارة إلى أن تعزف أول نوتة.

وتحوّلت الشوارع الجزائرية إلى ساحة عروض كبرى لفنون عدّة، من موسيقى ورسم ورقص وأعمال فنية أخرى، وباتت ملاذاً للفنانين الشباب الذين لم تتح لهم الفرصة لممارسة مواهبهم وتقديم عروضهم الفنية في القاعات المغلقة أو على مسارح المهرجانات.

19